الرمزية طريقة معرفية.
“كثيرة هي الاشياء المخبأة تحت أشكال وقصص ميثولوجية والتي تحيط بالحقيقة وتضفي عليها هالة مظلمة ومن خلالها تظهر الحقيقة بالشفافية” بلوتارك (Plutarque).
“نعيش في عالم من الموجودات غير المرئية التى تتجلى من خلال أمور مرئية” جوزف دو ماستر(Joseph de Maistre).
عُرِّفت الماسونية ب”مؤسسة تكريسية تعمل من خلال رموز”. والماسونية عامة تخصص للرمزية مكانة عالية.
المحافل التي يعمل فيها البناؤون الاحرار مزيّنة برموز مختلفة. الرموز تختلف من الزاوية والبركار المتشابكين، الى الحجر الخام الغليظ غير المنحوت والمشذّب، الى الحجر المكعب المنحوت الى النجمة ذات الخمسة فروع الى العواميد المصطفة بإنتظام، ام بالرمز الأشهر المثلث ذات الأضلع المتوازية الخ.
يتساءل الإنسان لماذا في هذا العالم الحديث، العقلاني والصناعي، في هذا العالم التقني الذي ينتصر فيه الفكر العلمي كوسيلة وكمعيار أحادي لماذا يهتم الماسون بالرموز؟ الا يوجد خلل منهجي في هذا؟ ألا نستطيع أن نقول أن العالم تجاوز الرمزية كوسيلة؟
بالعكس من كل هذا، يعتقد الماسون أن الفكر الرمزي يحتفظ بكل معانيه ويحتفظ بكل قيمته، ويعتقدون بأن الرمز من الطرق المحببة لمقاربة الحقيقة. وأن الرمزية في الوقت الحديث، تعتبر طريقة خاصة للمعرفة وتمكّن من إحاطة أمور الحياة بطريقة أسهل. ويعتقدون بأن الرموز تفتح أبواب المعرفة وتتيح الفرصة لأساليب تختلف عن الأساليب العلمية.
تتوازى للفرد عامة الذي يعيش في القرن الواحد والعشرون، المعرفة مع العلوم المخبرية والتقنية وكانها تشكل وحدة واحدة متكاملة. فهي منذ اوغوست كونت (Auguste Comte) تعتبر مجموعة من الأبحاث المنهجية التي ومن أهدافها إكتشاف نواميس للظواهر عامة. عملها يقتصر على الظواهر اولاً ومعرفة الأشياء وإقامة روابط وعلاقات بينهم.
” حيث تلاحظ المراقبة كائنات، تجد العلوم علاقات وتحاول تعميم هذه الروابط” لونوبل (R. Lenoble).
تهدف العلوم الى تحويل المُراقَب الى مجموعة من القوانين معبَّر عنها عامة بقوانين رياضية. “المعرفة “هي” أو “تساوي” القياس”، هذا التعبير يحجّم النوعية الى كمّية، الكائنات الى أشياء ويعمل من خلال شروحات عقلانية وتجريبية منهجية.
يحق لنا السؤال هنا: هل لنا الحق بتحجيم الوجود كله الى تمثيل عقلاني ورياضي وتقليص النوعية الى مفهوم الكمية والكائن الى شيء؟ كما نسأل أنفسنا هل أن المعرفة بمفهومها كطريقة وعمل معرفي يجب أن تختصر على الطرق المخبرية والتقنية. كما يحق لنا أن نسأل هل الحقيقة هي شىء أونتيجة إختبارية مماثلة للحقيقة المعرفية من النوع العلمي.
نلحظ أن العلوم الطبيعية ودون التقليل من قيمتها أومن نجاحاتها، بأنها منعت الأبحاث عن الحقيقة في مجالات أخرى وبالأخص في مجالات “الداخل” في الانسان. قال جورج غوسدورف (Georges Gusdorf) في مقدمة العلوم الاجتماعية “جوهر الفهم في الإنتظام المبني على الرياضيات… يبين لنا إشارات مفيدة جدا، إلا أنَّه من السخافة التخيل بأنه سيبين لنا معنى وحلول المشاكل الكبرى، التي تُطرح على الإنسان الساعي لمعرفة وضعه العام في هذا العالم” .
وكما قال الكي (Alquié) “بالنسبة لمقاربتنا وتلمّسنا للكائن، إن التاريخ الذي قاد الانسان وكل الناس من الأرواحية الى الميكانيكية، إذا كان نتيجة إنتصارتنا على الأشياء إلاً أنها ليست تلك المؤدية الى الفهم العميق للإنسان”.
من هنا ألا يجب أن نكمل هذه المعارف التقنية العلمية بأساليب أو طرق اخرى؟
بالرغم من يقيننا بأن الطريقة العلمية هي الناجعة الا يوجد شىء قد نضيفه ليعمق ويحسّن فهمنا؟
كان يقدم الفيلسوف ديلتي (Dilthey) المعادلة التالية “إذا ما عمّقت شرحك للطبيعة فهمت روح الحياة”. بما معناه إذا كان هناك مكونات ذاتية مختلفة وغير متطابقة لبعضها البعض في تكوين الفرد، علينا أن نصل الى هذه المكونات بطرق وأساليب مختلفة وخلَّاقة لإكتشافها.
كما في دراسة الطبيعة، لفهم مكونات الفرد الكائن علينا أن نستعمل أساليب مختلفة ومتناسبة لترجمة هذا الداخل. هل الرمز هو أحد هذه الأدوات التى من خلالها نستطيع سبر الداخل الانساني؟ أو بمعنى آخر ألا يساعدنا الرمز الى التقدم في فهم الداخل الانساني؟
الرمزية والرمز.
هل نستطيع أن نقول أن الرمز اداة تساعد الإنسان وبالاخص الماسوني الى الوصول الى المراتب الواقعية، التي تقدم طرق أخرى لفهم الطبيعة وبالأخص الانسان والكائن بشكل عام؟
لذلك ألا يجب التدراس والتساؤل حول الرمزية ومعانيها المستخلصة ووظيفة الرمز بذاته؟
في اليونانية القديمة كلمة رمز تستعمل للتعبيرعن شىء كسر الى جزأين ويحصل التعارف به من خلال مقارنة أحد الاجزاء مع الآخر، بما معناه الرمز يظهر الحقيقة بالتأكيد الجازم. فهو إشارة واقعية تفيد الى شىء مغيّب أو يستحيل إدراكه بالمقارنة التقليدية. وكأن الرمز جزء من الشىء المكسور والجزء الآخر موجود في داخل الإنسان، فيتلاقى المعنى عندها في الوجدان. فيكون الرمز مفعّل لقوة داخلية للتشخيص. نقول الثعلب يرمز الى الدهاء والأسد الى الشجاعة والحية التي تعض ذنبها الى الأبدية والحكمة. كما نستطيع أن نقول أن كل ظاهرة (رسم، مجسّم، قصة، حركة،الخ.) مشحونة بإنفعالات لحقيقة محسوسة أو عقلية تفيد و توحي معنى يتخطى ظاهرها هي رمز.
عند التحليل نجد لكل رمز قسمين يلتقيان في الوجدان. قسم محسوس ملموس واقعي خارجي كالبركار أو الزاوية موجودة في حيّز من الزمن والمكان. وقسم غير محسوس غير ملموس غير معبّر عنه كاملا بحروف يلتقى مع العنصر الخارجي في الداخل الواعي، كما أن الداخل الواعي يختلف من شخص الى آخر، يولِّد هكذا الرمز معانٍ وتعابير مختلفة.
الزاوية ترسل الى المساحة المستطيلة، كما أنها ترمز الى الارض والمادة. وتوصل الأفقي مع العامودي كما ترسل الى الفكر والأخلاق المستقيمين. البركار يرسل الى الدائرة والسماء ومن خلالهم الى النفس والروح والى ديناميكية الحرية المنظمة للكون. كذلك الشمس تتضمن قوة الحرارة والناروالنور والحياة والروح المطهّرة.
نلحظ بالتبادل أن الشىء الغير منظور يتجلى في أشكال منظورة، كفكرة القداسة التي تتمثل بالحجر القائم، أو بالهيكل أو بالتجسد بحسب المعتقد الفكري بحيوان أو انسان كالبقرة عند الفراعنة أوبوذا عند الهنود.
لذلك نقول أن الرمز يُدخِل الى فلك معرفي، إلاً أنَّ هذه الوسيلة مختصرَة بشكل وبحدود منتهية.
لا يوجد للرمز في العقل الواعي تفسير أحادي، فهو محفز الى حرية خلاقة في التعبير.
كتب جيلبرت دوران (Gilbert Durand) “القوة الشعرية للرمز تؤطر حرية الانسان”. هو علاقة ما بين المعبِّر والمعبَّر عنه. شبّه أحدهم الرمز كقطعة موسيقية، يختلف تقديمها وذلك بحسب مشاعر الفنان الذي يؤديها وبحسب تمرّسه ومعرفته الموسيقية.
بالرغم من أنه ليس للرمز معنى واحد، إلاً أنَّه لا يعنى أو يفيد أي شيء بل له “معنى خاص”. فإن كان له معنى خاص فما هو هذا المعنى؟
قبل الجواب عن هذا السؤال علينا أن نعيد النظر في التكوين الثنائي للرمز. في كل رمز هناك معبَّر ومعبِّر، تناسق، ملاقاة، تناسق جزئي بين الجزأين الظاهرين من خلال المقابلة. إلاً أنَّه بالاضافة لهذا التقسيم نجد طبيعة متجزأة ومتكاملة. شبه “أوجين فنك” (Eugène Fink) هذا بالإنسان المنفرد بذاته داخل الكون والذي يدخل في التكوين الكلي للكون.الإنسان بذاته فرد، محدود، منفصل والتكلم عنه يكون عن هذا الجزء إلاً أنَّه يفيد أيضا عن الإنسانية والكون عامة.
على مثال الأشياء كذلك الأفراد يمكن إعتبارهم كرموز، أي أشياء وأشخاص يرسلوننا الى مفهوم آخر. عبّر افلاطون عن هذا في كتابه المأدبة (Banquet) حيث أظهر كل انسان منقسم الى شقين أو قسمين، كل قسم يرسلك الى القسم الآخر. فكل رمز يظهر دائما مهما كانت حيثياته الوحدة الأساسية لعدة أشياء أو فسحات.
كتب رينيه غينون (René Guénon) أساس الرمز هو هذه العلاقة والإرسالات التي يظهرها ما بين حقيقة الأشياء الممتدة من العالم الحسي الى العالم الماورائي. يوحي الى الإنسان المحدود بالشكل أنه غير محدود من الداخل ولكنه متصل بما يوصله الى الإحاطة بكل شىء وتجاوزها في الوقت نفسه.
هكذا الفكر الرمزي والمدرسة الرمزية تبين وتكشف الحجب عن أشياء لا نستطيع كشفها ولا الوصول اليها بالطرق الأخرى. المعرفة الرمزية توصلنا الى معرفة “الكائن” و”الكون”. وكل هذا بصمت عن كلام كثير.
كل رمز يفتح الطريق على اللامتناهي. دون التقليل من علوم الرياضيات والعلوم التجريبية، الرمزية تخولنا الدخول في مجالات لا تصلها المعرفة التجريدية والمفاهيمية والاستطرادية. هنا نفهم التجربة التكريسية التي تكشف عن حقيقة أخرى للكلمات والحركات المحدودة المقرؤة في الكتب، هذه مفاهيم لا يعيها إلاً كل مكرّس وعلى حدة.
علاقة التكريس مع الرمز.
سنترك الكلام لبعض الشعراء لربما يعبرون أفضل عن هذه الرمزية.
يقول بودلير (Baudelaire): الطبيعة هيكل حيث القوائم الحية تلفظ كلمات مبهمة. يمر الإنسان من خلال غابات رمزية، تنظر اليه بنظرات مألوفة. ويقول في مقالة عن الحواس. الصوت لا يبين الألوان كما أن الألوان لا تبين الصوت ولا الصوت والألوان مجتمعة تنقل الأفكار. التبادل يكون بين متماثلات جزئية وهذا منذ أن عُرِف العالم بتكوينه الجزئي والمركب. اللفظ اللغوي غير قادر على التعبير عن جميع القدرات التبادلية بين مكونات هذا الكون. الموسيقى أسلوب من هذه التبادلات كما الفن بأقسامه. يصبح كل من يبدع خارج نطاق المنطق العلمي مترجم للقوى الخفية والمعرفة غير الحسية. نيتشه (Nietzsche) في كتاباته أبحر في الفضاءات الرمزية.
الرموز تشبه الشِعْر في مقاربته الإختلاجات الحياتية والوجدانية وأسرار النفس الإنسانية، الذي يسهل لنا بعض من الرؤية بشفافية ووضوح. فيكون الرمز خيط من خيوط المعرفة التى تعيننا في إدراك المعرفة الداخلية بوقفة على داخلنا السري. تفهمنا الرمزية بأن الحقيقة لا تكمن فقط بالمرئي ولكن لها تجليات في غير المنظور والمحسوس المتواجد في عمق اعماق النفس البشرية المكنون في داخل كل فرد.
كوسيلة صامتة يحول الرمز الصمت الى كلام، ويساعد كاسلوب معلوماتي في إتاحة الكلام والتعبير للجماد الصلب البارد. على مثال الشعر الذي يعطي الكلام للطبيعة والأشياء، متيحا لها الغناء بصفاوة، هكذا الرمز ولكن بزخم وبشدة اقوى.
إذا كان الكلام من الخصائص الظاهرية للبشر، الرمز وسيلة كونية لتعبير الموجودات داخليا بالإضافة الى أنه وسيلة للموجودات الأخرى من النبات والجماد وبالتالي وسيلة تحاكي الكون عامة.
إستعملت الماسونية الطريقة الرمزية والتي لا تقتصر على الرمز وحده بل أشركته مع الادوات الأخرى والتي منها الأساليب الطقسية، هذا التكامل إستدعي وفرض الطريقة التكريسية كمتوجة للطرق الرمزية عامة.
يقول في هذ الفيلسوف الالماني غوته (Goethe) ” هو أداة للخلق، الكلمة، الذي يحول عالم الظلمة الى عالم نور”.
يستعين الماسوني بترحاله التكريسي بالرموز ليبحث عن النور والإشراق، يبحث عن نور يغيير الكلمات، كلمات من لغة التجلّي في الكائنات، محولة الإنسان العادي الى إنسان كامل.
ضع النجم الساطع نصب قلبك فتستنير وتنير.
– حقوق النشر: الدكتور ميشال الخوري © ٢٠٢١