الإبراهيمية، الهرمسية والتوحيد

الإبراهيمية، الهرمسية والتوحيد

المعتقد السائد هو ظهور التوحيد مع الديانات الإبراهيمية. إذ أن الغالبية العظمى من العوام تعتقد بأن التوحيد وعبادة الإله الواحد، لم تترسّخ إلا بعد الكَشِف الذي وقع على أتباع الديانات المسمّات إبراهيمية.

 

الفترة التي ظهر فيها إبراهيم.

وردت سيرة إبراهيم في الكتب. ويعتقد أصحاب هذه الديانات بأن ابراهيم شخصية حقيقية. بحسب التوراة وَالِد إبراهيم هو تارح وهو العاشر في شجرة النسب من نوح. وبحسب رواية التوراة فإن إبراهيم ولد حوالي سنة 1900 ق.م. ورد أيضا أنّ إبراهيم عندما تزوج من سارة كان يكبرها بعشر سنوات.

بحسب الرواية بعد أن بلغت سارة من العمر 76 عاماً ولم تنجب ذرية لإبراهيم، طلبت منه أن يدخل على جاريته هاجر والتي ولدت له إسماعيل وكان عمر إبراهيم 86 عاماً. يقال بأن إسحاق ولد بعد ثلاث عشرة سنة من ولادة اسماعيل عندما بلغ إبراهيم 99 سنة. هناك من يعتبر إسحاق باكورة أولاد إبراهيم، بالحقيقة هو البكر لسارة لأنه وبحسب التقليد اليهودي تكتسب اليهودية من الأم وليس من الأب. تعتقد بعض الشعوب بأن الأم هي الوحيدة التي تعرف وتستطيع أن تحدّد نسب ولدها وابن من يكون، لإختلاط الأنساب عند هذه الشعوب. أمّا في الإسلام الذي ينسب الأولاد لأبائهم فالبكر هو إسماعيل.

هذا التأريخ يختلف قليلاً من مرجع الى آخر إنّما الروايات الدينية تجتمع حول هذه الأرقام ولو ببعض الفوارق البسيطة.

 

إشكالية قصة ابراهيم .

للإشكالية وجهان:

  • عقائدي، باعتبار إبراهيم أبا الشعوب والمتَلَقّي للوحي.
  • وروائي، مسطّراً الثغرات أو التناقضات العقلية والفكرية المتواجدة في قصة إبراهيم.

الإشكالية العقائدية.

إذا اعتبرنا بأن إبراهيم هو أصل التلقّي الإلهي للوحي، وبأنّ الله خصّصه كما تقول الرواية من بين جميع الشعوب، فهذه تتناقض مع العدل الإلهي بالمساواة بين البشر. فما هي حالة ووضعية الشعوب التي سبقت إبراهيم أو عايشته ولم تكن من شيعته.

التأريخ القديم كان في مأزق قبل القرن العشرين. إذ انّ توقيت وتقدير الأزمنة لم يكن قائم إلاّ على الإيمان بصحة الروايات الكتابية، المرجع الوحيد للدرس والتنقيح. التي كانت تحدّد تاريخ البشرية ب4000 ق.م.

بتطوّر علم الآثار والفيزياء أصبح من الممكن تحديد التأريخ المطلق وهذا يقوم على دراسة المواد المشعّة الموجودة في الأثر المبغى تحديد تاريخه. من إحدى هذه الطرق الكربون المشعّ.

خلافاً لما قدّمته الروايات المأخوذة من التوراة التي تعيد تاريخ البشرية الى 4000 سنة ق.م. تبين بأنّ شعوب كثيرة كانت موجودة قبل هذا التاريخ. النطوفيّن الذين عاشوا في الجهة الشرقية للبحر المتوسط يعود تاريخهم الى حوالي 12000 سنة ق.م. كما أن الشعوب التي عاشت في أميركا الجنوبية في منطقة الاندس التشيلي الحالية كانوا يحنّطون موتاهم في 8500 ق.م و بعدهم المايا والازتيك يبنون من الحضارات التي تعود الى 2000 ق.م، وعرفت هذه الشعوب العمارة والفن والهندسة والرياضيات وعلم الفلك، كما بنت المدن في الفترة الممتدة من 2000ق.م الى 500م.

في الصين، ومنذ الحقبة المدعوّة نيوليتيك اُثبِت وجود جماعات بشرية تسكن القرى في قرابة ال9000 ق.م. كما تبيّن أن سكان الصين كانوا يزرعون الأرز قبل 5000 سنة ق.م.

أثبت علم الآثار وبشكل قاطع، ومعتمداًعلى نتائج علمية دقيقة ويمكن التحقق مها بسهولة، بأن البشرية تعود لأكثر بكثير من ال4000 سنة المقدّمَة في الروايات الكتابية.

 من هنا الإشكالية العقائدية، فإن كانت هذه الشعوب موجودة وبآلآف السنين قبل إبراهيم والتاريخ المقدّم لآدم، فيلزم على الباحث أن يطرح اسئلة ومنها:

  • من خلق هذه الشعوب إن لم تتحدّر من آدم؟
  • هل هي خارج المشروع الإلهي الراغب في خلاص البشرية؟
  • ما جواب الروايات ومن يأخذها بشكل مطلق على هذه الإكتشافات والإشكاليات؟
  • هل يعقل بأن الإله المحكى عنه في الروايات تناسى جميع هذه الشعوب ولم يتوقف إلاّ على إبراهيم المتحدّر من (آدم) ونسله؟
  • هل نحن أمام تاريخ لشعب محدّد خصّص نفسه بالرواية والهوية ؟ فتناسى بطبيعة الحال كل ما هو مخالف. عندها تكون الرواية محدودة تاريخياً وجغرافياً!

 

إشكالية الرواية.

حقائق تاريخية.

  • وجد في (Beit Shean) محفور يتكلّم عن أولاد راهام الذين ينتمون الى قبيلة راهام ممّا يرجّح وجود أب لهذه القبيلة مدعو أبو راهام ومنها إبراهام. إلّا أنّ الأبحاث الأثرية وجدت في هذه المنطقة وعلى امتداد قرون محفورات كتب عليها “ابرام”، ويرجّح عودَتُها الى اختلاط وتواصل مع سكان الهند حيث تتواجد هذه المسميات من “برهما”، “ابرام”، “رهمان” الخ… فهذه الإكتشافات ليست حجة في إثبات وجود إبراهيم المروي عنه في الكتاب كما ولم يتواجد أي رابط ما بين إسم إبراهيم ومدينة أور في جنوب العراق.
  • في معبد آمون في الكرنك تُكُلِّم عن حقل إبراهام الموجود في النجف (بين الألفية الثانية والثالثة قبل الميلاد)، هذه تسقط أيضاً في إطار المسمّيات المشتقّة من إبرام وبرهمان وليست حجّة في إثبات وجود شخص بعينه المعروف بإبراهيم.
  • تقول الرواية أن إبراهيم قدّم للمصريين زوجته على أنّها أخته وأخذها فرعون مصر الى قصره، وغضب ربّ إبراهام على فرعون مصر لأنه أخذ إمرأة متزوجة. المضلّل هنا والمسؤول هو إبراهيم وليس فرعون إن صحّت الرواية. كما أن إبراهيم كان قدّم الى أبي مالك زوجته على أنها أخته وأخذها أبي مالك وترائى الالوهيم لأبي مالك وقال له أخذت امرأة متزوجة ستهلك. اعترف إبراهيم بعدم صدقه فأعاد أبي مالك ساره لإبراهيم وقدّم له الهدايا وعندها وبحسب الرواية شفي أبي مالك وعائلته. في تلك الحالتين تقول الرواية بأن إبراهيم جنى من تقديم امرأته على أنها أخته مغانم كثيرة من الأنعام وغيرها.
  • علم إبرام بأنّ أخيه لوط سبي فخرج على رأس 318 مقاتل واستعاد أخيه وغنم ممتلكات (Kedorlaomer) الذي كان يحكم بلاد إيلام (Elam) من ايران الى مصر. وعند عودته تقدّم من ملك سالم (Salem) ملكيصادق (كاهن للرب) وسجد له وقدم له العشر فباركه. الذي يُبَارك يكون أرفع من المُبَارك كما يقدّم العشر لمن هو أرفع.
  • لا ننسى أن ساره كانت في سن متقدّمة لتكون مشتهاة وموضع تنازع في كل رحلة لإبراهيم، فهل اختلطت الرغبة الحالمة بالحقيقة؟
  • فرعون وأبيمالك كانوا في الحالتين ضحية لكذب إبراهيم. كلمة “كذب” في موضعها لأن إبراهيم قال لابيمالك في الرواية “كذبت عليك”.
  • مدينة بئر شيفا (Beer Sheva) لم تكن موجودة في القرن التاسع عشر قبل الميلاد. تواجد سكان في منطقة بئر شيفا في الألفية الرابعة ق.م. ثم هُجِرَت.
  • قصة إبراهيم كتبت ما بين القرن السابع والخامس قبل الميلاد. أي بعد أكثر من ألف سنة من فرضية وجوده. هل امتزجت الخرافات مع الأساطير لإضفاء علو ومكانة لاجداد الكاتب المزعوم؟

 

حقيقة التوحيد.

قال الأقدمون بوجود آلهة متعددة. لكلٍ عمل مقسّم بحسب الإحتياجات. منهم من هو مختصّ بالأرض، منهم من هو خاص بمجموعة عرقية أو أثنية، ومنهم من يختصّ بعمل من الأعمال كالصيد، أو ظاهرة طبيعية الشتاء، الرعد ، الهواء وغيره.

اعتمدت بعض الشعوب إله أقوى من الآخرين وأعلى وأسمى سمَّتهُ إله الآلهة كـ زوس (Zeus) أو آهور مزدا (Ahur Mazda) فيصبح هذا الإله هو الموجود على رأس الهرم وينتدب من دونه للأعمال الأخرى.

هذه المقاربة هي مقاربة توحيدية بإمتياز إلا أنّها تُبقى على الوسائط، كعاملين في خدمة الإله الأكبر. نستطيع أن نسمّي هذه الديانات توحيدية إذ أنّها تعتبر أصل الوجود إله واحد ومنه خرجت قوى لإدارة شؤون عالمه وكونه.

في الديانات الإبراهيمية بقيت هذه التراتبية بوجود إله واحد عليّ وقوي ومتعالي عن مخلوقاته، إلا أنه ينتدب وسائط وبدل من تسميتها انصاف آلهة سميت ملائكة. فكان هناك إله للهواء وإله لقبض الأرواح سميّ عزرائيل وإله للمساءلة وإله لنقل الرسائل وملائكة لتحمل العرش سمّيت شاروبين وكاروبين الخ… أضف على ذلك وسائط بشرية ارتقت الى مصاف الشفعاء من قديسين متخصّصون بالأمور الصعبة والأمراض المستعصية وهذا يشفي النظر والحيوانات وذاك يحمي من الطاعون والفياضانات هذا لإكتسابه المكارم بعمله الزاهد والتقشفي وذاك لنسبه الى أهل رسول أو نبي الخ…

في كلتا الحالتين القديمة المدعوة وثنية والجديدة المدعوة إبراهيمية نحن أمام ديناميكية ومفهوم واحد. يعترف كلا المنهجين بإله واحد يفيض عنه قوى تقوم بأعمال الدنيا لأنها ليست من مقام الكبير والسامي والأعلى.

وهو لا يُسمَع لأن من يسمعه تُصَم آذانه ولا يُرَى لأن من يراه تحترق عينيه على مثل النار في العلية الخ…

 

هل عرفت الشعوب القديمة التوحيد؟

بعد أن جدّد “زردشت” الديانة القديمة “المازدية”، أصبح “اهور مزدا” ” Ahura Mazda ” الإله الأوحد الذي ومنه يتولّد إلاهَين للخير والشر. ف”اهور مزدا” يصبح الإله الواحد الأحد الأعلى وهذا هو أساس منطق التوحيد.

 

الفراعنة.

بينما كان إبراهيم يهشّ غنمه ولا يعرف طريقة صناعة الأجبان ومشتقاتها كان المصريون يبنون الأهرامات والمدن المعروفة ويحنّطون موتاهم.

التوحيد كان عقيدة الفرعون المصري أخناتون الذي سبق إبراهيم بالتاريخ والذي منع عبادة الآلهة المتعدّدة وفرض عبادة الإله الواحد.

 

الهرمسية.

بالتوازي مع تطوّر الديانات الإبراهيمية تطوّر تيّار كان قد وُجد ما قبل التاريخ المروي لوجود إبراهيم أطلق عليه اسم الهرمسية، نسبة الى هرمس الموكّل من الوعي الكوني والذي كان له مظاهر خارجية اختلفت بحسب الزمان والمكان، فمن هنا نجد في التاريخ عدة أشخاص أطلق عليهم اسم هرمس، وفي القريب اطلق إسم أولياء على من اعتبر مرسل ومدعَّم بالعصمة.

تميّزت الهرمسية بعدم وجود وسائط. وبرعاية المخلوقات مباشرة من القوة الأولى الواعية الكونية، وبقدرتها على التخاطب أو التواصل مع جميع مخلوقاتها وكُلٍ بحسب مقدرته الاستيعابية.

فهذه القوة الخالقة قادرة أن تتواصل مع مخلوقاتها لأنها هي من خلقها وقادرة أن تتأقلم مع قدراتها الحسّية. أما وسائط التواصل فهي مختلفة بحسب حاجة كل انسان، من وحي يوحى مباشرة بإلقائه في قلب الطالب أو عن طريق رسول أو بواسطة حلم أو رؤى أو من خلال الطبيعة، الخ… فهي ليست محصورة بقبضة واحدة تقبض على أرواح وأنفس الخلائق.

 

في الطريقتين.

تتكلّم الأديان المدعوّة إبراهيمية عن إله غيور لا يقبل العبادة والتقرب، إلاّ من خلال باب أعطاه أو ملّكه لشخص وخصّ به شعب ونسي العالمين، وحقّ له توريثه لمن شاء من بعده، إن كان على أسس وراثية أو إختيارية. وكلّ من لم يتقرّب لهذا الإله خارجاً عن الأطر التي رسمها سحقه ومحقه وأدخله النار أبداً.

يفترض بالإرادة الإلهية ألاّ تكون بأيدي ومتمكن مخلوق مهما علا شأنه، كما قال الصادق ما أنا إلاّ بشر مثلكم وما ارسلت إلا رحمة للعالمين، فكيف يوكل هذا الإله أشخاصاً محدودي القدرات بتقييم إرادته في سبيل التفرقة ما بين المستجدات والمستحدثات.

بالمقابل تكلمت الهرمسية عن قوة كونية تمدّ يدها لكلّ من تقرّب اليها، متقبّلةً قُربَتَهُ طالما هي على مستوى مُقدِّراته التي لا حول له بها. فهو وجد محدود الإمكانيات والقدرات. فطريقته للتقرّب لا تستطيع أن تشابه طريقة أخرى ولا مقارنتها وتقيّمها على أساس مقاربة شخص آخر. العلاقة في الهرمسية مباشرة ما بين الفرد والقوة الكونية، وهذا يذكرنا بالقول الفصل: انا اقرب اليكم من حبل الوريد.

 

لعلّ أخناتون ولاو تسو والهرمسية مما لم يقصّ علينا.

 – حقوق النشر: الدكتور ميشال الخوري  © ٢٠٢١

error: Content is protected !!