التحريف الهرمنيوطيقي

التحريف الهرمنيوطيقي.

يقول علماء بعض الأديان أن ما هو بين يديهم هو هو كما وعاه (فكّر به) الله.

هل يمكن أن يدخل التحريف على الكتب الموروثة دينية كانت أم عامية؟

 

التحريف أو الميل عن الأصل ليس سببه دائماً خبث الكاتب أو الحامل للرسالة. إذ أن هناك أسباب أخرى تدخل في هذا المضمار وهي من الطبيعية بشكل لا تتنافى والمنطق ولا الطبيعة الإنسانية.

نستطيع أن نقول أن هناك نوعان من التحريف، تحريف مقصود غير أخلاقي وتحريف هرمنيوطيقي.

التحريف المقصود هو قيام شخص أو عدة أشخاص بالتلاعب بنصّ معيّن إما بزيادة أو نقيصة، ويسمّى بالتحريف اللأخلاقي لأنه مرفوض أخلاقياً وهذا النوع يمكن منعه والحيلولة دون وقوعه. بالإعتماد على الكتب الأم وعلى ما هو متواتر.

أما الثاني وهو الهرمنيوطيقي (herméneutique) فهو واقع لا محالة ولا يستطيع أحد منعه كما سيأتي.

لفهم التحريف الهرمنيوطيقي يحتاج القارئ للتعرّف على علم الهرمنيوطيقيا ولو إجمالاً :

تمّ اشتقاق المصطلح من إسم الإله اليوناني هيرميز(Hermès)، والذي نسبت له الإغريق أصل اللغة والكتابة واعتبروه راعي الإتصال والتفاهم بين البشر. ومن المؤكد أن هذا المصطلح في الأصل كان يعبّر عن فهم وشرح أي حكم غامض أو مبهم من الآلهة كان يحتاج إلى التفسير الصحيح.

كما نعرف فن الكتابة يختلف من شخص الى آخر، كما أن فهم فكرة يختلف بحسب المتلقي، نضيف الى ذلك التعبير عن ما هو متلقّى يختلف أيضاً من شخص الى آخر.

بما معناه أن فكرة أو قاعدة وردت في تفكير شخص ما، لا يستطيع التعبير عنها إلا بمقدرته عن وضعها بكلمات تعبّر عن الفكرة ذاتها التى وردت في خاطره. بالإضافة الى اختلاف المقدرات والفنون الكتابية هناك حاجز اللغة الذي يحصر التعبير بما تتضمّنه من كلمات وتعابير. علماء اللغة يعرفون اختلاف مقدرة اللغات فيما بينها بالتعبير وايصال الفكرة، فبالتأكيد الترجمة تدخل عائق آخر عن ايصال حقيقة النصّ.

بافتراض وصول الفكرة من أول ما برزت في فكر وعقل كاتبها الى قارئها، يدخل هنا مقدار فهم واستيعاب القارئ. فبتعدّد الأشخاص تتعدّد المفاهيم.

مِثال على ذلك، لو افترضنا قراءة كتاب “البغفات غيتا” الذي يروي تكلّم “الله – المسمى كريشنا” مع “ارجونا”. يقال أن ما كتبه ارجونا هو الكلام الذي سمعه. لو وعي ارجونا كلام الله كما عقله الله، هذا يعني أن ارجونا وصل بوعيه الى وعي واستيعاب الله مباشرة وهذا مستحيل، لأنه بهذا يكون قد وصل الى الوعي الإلهي فيصبح هو بمثابة الله لإحتوائه الوعي الإلهي. ثم اسمع “ارجونا” من حوله بما سمع، ولِأرجونا مقدار من الوعي والفهم تلوّنت به رسالته. ومن سمعه وعيه بمقدار قدراته العقلية والفكرية ثم كتبه بلغة. “لارجونا” حدوده وللّغة حدودها ولكاتبي “الرسالة” محدوديتهم، ثم عُمِد الى ترجمته الى لغات أخرى. هنا نرى أن الفكرة أو “الرسالة” مرّت عبر مفاصل عدة، لا تستطيع عندها أن تكون كما يُدَّعَى أنها هي هي كما كانت في الأصل.  

 

تكلّم عن هذا شلاير ماخر (الهرمنيوطيقية التقليدية) يقول أن كلّ خطاب يقوم على ثلاثة أركان: (المتكلم) و(الكلام) و(المتلقي) وهذا يعني أن المتلقّي أو السامع يعدّ جزءاً من الخطاب وركناً من أركان المعنى المقصود بينما في علم اللغة القديم فالكلام يقوم على ركنين: (المتكلم) و(الكلام) ولا دور للمتلقي في صياغة الخطاب، وعليه يختلف فهم النص من شخص لآخر حسب مقبولاته ومسبوقاته الفكرية لأنه جزء وركن من الكلام، بمعنى أن الله عند مثلنا في “ارجونا” أو أي متكلم لا يتكلم مع جدار أو شجرة بل يكلّم إنساناً ويراعي فهمهم للخطاب. ذهب بعده جادامر (الهرمنيوطيقية الفلسفية) الى حذف المتكلّم أيضاً وما يسمّى بموت المؤلف أو النصّ الصامت حيث يقوم المتلقّي بمنح النصّ المعنى والحياة وإلاّ يبقى النصّ صامتاً وعديم المعنى بدون قراءة المتلقّي، ومعلوم أن المعنى لا يكون حينئذ كما أراد المتكلّم بل كما يريد المتلقّي وكما يتوافق مع ثقافته ووعيه ومقبولاته…

 

تُعتبر هذه المسائل حالياً من مسلّمات قراءة النصوص. هنا “جادامر” يذهب من منطلق أنه يتواجد بين يدينا كتاب “الباقافات غيتا”، -النص-  ولا أعرف المتكلّم فيسقط المتكلّم عندها والتفاعل يكون بين القارىء والنص. فيختلف المفهوم بحسب القارئ ولا يُؤخذ النصّ إلّا بما يدخل ضمن دراسته وتقييمه له. لو أخذنا هندوسياً لأخذ النصّ من دون أي دراسة أو تمحيص، ليقين ايماني ديني، بأنه من “ارجونا” المتكلّم مع الله مباشرة. أمّا بالنسبة الينا إنه نصّ من النصوص ويجب دراسته تاريخياً وفلسفياً واجتماعياً الخ…

نفهم ممّا تقدّم أنّ كلّ كتاب أو نصّ يقع بين أيدينا ولو نسب الى مصادر ما ورائية إلاّ إذا ثبُت العكس، علينا أن نتعامل معه كنصّ من النصوص التي يجب أن تخضع للمساءلة والدراسة.

من هنا عندما ننكبّ على دراسة أي تيار عرفناه على مدار التاريخ، لوجدنا في كلّ تيار انشقاقات ونشأة فرق مختلفة، تحلّل وتفهم كتبها الأم بأشكال ومفاهيم أخرى. هذا يعود الى التحريف الهرمنيوطيقي الذي يبدأ من المنشأ ويتغير في كلّ مرة عندما يمرّ عبر وعي أو فكر أحد ناقليه.

 

فعندما تدرس نصاً مكتوباً يقع التحريف الأخير، الذي، وبمنحك الحياة للنصّ، لا يفهم إلاّ من خلال ثقافتك ومعلوماتك وعقائدك. من هنا يشدّد المفكرين الأحرار على نقل المعرفة فيما بينهم متكّلين على الرمزية، التي تقلّل من الفلاتر الهرمنيوطيقية.

هنا نفهم استعمال الرموز والمشافهة. الرمز يتجاوز الحائط اللغوي وينتقل عبر الزمان والمكان من دون تشويه. كما أن المشافهة تبيّن وتتفاعل مع المتلقّي لايصال الصورة الأوضح.

يستعمل الماسون لنقل الإرث الذي يحملونه على الرمزية والمشافهة، فهما أداتين لطريقة متكاملة تقلّل من التحريف الهرمنيوطيقي، وتوصل الرسالة ببواطنها للمتلقّي بحسب ما يجب أن تصله.

 – حقوق النشر: الدكتور ميشال الخوري  © ٢٠٢١

error: Content is protected !!