الجمعيات السرية

الجمعيات السرية

     لم تخلو منطقة من مناطق العالم، ولم يتواجد فيها جمعيات اضطرت للسرية وذلك لمناهضتها ظلم السلطات السياسية أو الدينية. لم تكن جميع الجمعيات سلميّة إذ أنّ البعض استغلّ هذه التغطية للقيام بأعمال غير قانونة أو إجرامية على مِثال المافيا.

     وتواجدت هذه الجمعيات في جميع بقاع الأرض من  مصر القديمة الى بلاد فارس وبلاد ما بين النهرين الى الصين واليابان والجزر المحيطة الى روسيا وأوروبا وأميركا.

     لم يخلو بلد من نظام الجمعيات السريّة. إلّا أنّ جميع الجمعيات السرية لم تكن ذات أهداف مادية منفعية محضّة. تواجدت كثير من الجمعيات تحت غطاء السرية لأداء مناسك دينية كالغنوصيين والكاتار أو في اليونان القديمة “ميترا”، أو لتبادل أفكار فلسفية كـ “البيتاغوريسية” و”جمعية وردة الصليب”، أو لغايات إصلاح سياسية “الكاربوناري” وإجتماعية الخ… والتي يتركّز عليها إنتباهنا هي الجمعيات ذات الطابع الفلسفي الإجتماعي، وإليها ترجع الماسونية.

     تاريخياً، غالباً ما كانت المجتمعات السرية موضع شكّ وتكهّنات من قبل السلطات الطاغية الحاكمة ومن العامة عامةً وقد أحاط بها مناخ من الحذر.

    يتطلّب الإنخراط في دراسة المجتمعات السرية، أولاً وقبل كل شيء، الواقعية التي تتناسب مع مظاهر النشاط البشري المتعدّد والمعقّد، فضلاً عن الروح العلمية إن لم نقل الأكاديمية. اختلطت في هذا الموضوع، الأساطير مع التاريخ الغير موثّق كما مع شهادات من ادّعى “معرفة” متذرِّعاً بأسباب عقائدية ودينية. حتى أصبح البحث في هذا الموضوع كمن يفسّر الحلم بالحلم والخرافة بالخرافة، وفقد المرء الغير ملمّ بدهاليز السياسة والدين والتاريخ المحرَّف في هذا الموضوع، الثقة بما قيل ويقال الى حدّ الإبتعاد عن الولوج بهذا الموضوع. وإن بحث فسيجد أحلام تفسّر الأحلام وخرافات تغطي على خرافات.

    الأبحاث التاريخية الحديثة فتحة كوّة في هذا المضمار، وأصبح باستطاعة الباحث إيجاد بعض الأجوبة بعد قرون من التضليل والظلام، وإن لم تتّضح جميع جوانبها. إنما وعلى الأقل، تُلقي بالريبة على كل قيل زوراً عن هذه الجمعيات. 

     نميّز عدّة أنواع من المنظمات إن كان كجمعيات سرية أو التي تعتبر في بعض الأحيان على هذا النحو:

الأخويّات الطلاّبية، المنظّمات الإجرامية، المجتمعات الودّية، الجمعيات الدينية، جمعيات العمال الخ…

     أثار هذا الموضوع حشرية العامة الى حدّ أنّه دخل في الأدب من خلال قصص شاعت وأصبحت محطة لبناء بعض الأوهام. على مِثال: الكسندر دوماس وجوزيف بالسامو في عام 1846 إلى Foucault Pendulum لامبرتو ايكّو أو Da Vinci Code لدان براون في عام 2003 إلى Cigars of the Pharaoh ل Hergé في عام 1934، كلّ هذه غذّت نظريات المؤامرة وأضافت الغموض على الخيال. وكانت أساس ليس لكتابات صحافية فقط بل لأفلام أدخلت في الوجدان بعض الصور الجميلة فنياً والبعيدة عن الحقيقة.

     سنعرض مثال على هذه الجمعيات في القديم، والتي كنّا قد فصّلنا نشأتها في رسالة ” المجتمع في القرون الوسطى”.

في مصر.

     دير المدينة، تواجد في صعيد مصر، مدينة عماليّة فرعونية في وادي الملوك في محافظة الأقصر، وكانت مقراً لعائلات العمال الحرفيين في الفترة الممتدّة من (1570 – 1070 قبل الميلاد). كانت مهمة هؤلاء الحرفيين بناء قبور الفراعنة في وادي الملوك. الإسم العربي “دير المدينة” أطلق على هذه المدينة في القرن الخامس ميلادي إذ استعمل كـ “دير” من إحدى الطوائف المسيحية التي إحتمت بجدرانه.

    لم يُختزل عمل هؤلاء الحرفيين على بناء القبور فكان منهم من يصنع التماثيل والأثاث والأواني لتجهيز قبور الفراعنة لكلٍّ على حسب رغبته قبل موته.

     أُعيد الإهتمام بهذه المنطقة في عام 1810، حيث قام اللصوص بنهب دير المدينة التي كانت مقابرها ومنازلها في حالة جيّدة. وضع “أوغست مارييت” نهاية لهذا النهب الوحشي في سنة 1850. تعاقبت عدّة حملات أثرية على الموقع إلاّ أنّ الأجدى كانت على يدّ المستكشف الحقيقي للموقع  “برنارد برويار” ، الذي قضى ما يقرب من خمسة وعشرين عامًا من حياته هناك. قام بأعمال منهجية بين عامي 1917 و 1947. ولحسن حظّ هذا الباحث وقع على بعض القبور التي لم تنهب وكانت في حلّتها الأولى.

     كما عُثر على بئر ماء جاف ويبدو أن البئر قد أصابه الجفاف في هذا الزمن البعيد بحيث كان العمّال يرمون فيه قطع من الفخار مكتوب عليها رسائل. تلك القطع تصوّر جانب مهم من الحياة الإجتماعية وطريقة تعامل العمال مع بعضهم في هذا الوقت، وهي الآن بمثابة “مكتبة ” نقرأ منها عن حياتهم اليومية في الماضي .

     نمت المدينة لتشمل تحت رمسيس الرابع حوالي 1200 شخص وكان يقوم على خدمتهم طاقم من الصيّادين والمزارعين وناقلي المياه. كانت لهم مكانة خاصة ومميّزة لدى الفراعنة فخصّوهم برواتب مهمة وكل ما يلزم للقيام بمهمتهم.

     كوّن هؤلاء الحرفيّن “محافل” يجتمعون بها بشكل دوري وكانوا يتناقلون فيما بينهم أسرار مهنتهم، والتناقش بما يديم عليهم الخاصيّة التي خصّصهم بها الفراعنة. وكانوا يستعملون كلمات وإشارات لتمييز مراتبهم وكانوا يرتدون مآزر مختلفة كلِّ بحسب مكانته. كانت صالة الإجتماعات مستطيلة ويتوسطها عامودين وكان الحاضرين يجلسون على جوانب الصالة وليس في مواجهة رئيس الجلسة. في المقارنة مع شكل المحافل الماسونية سيجد الباحث تطابق كلّي.

     بالرغم من أنّ المصرييّن كانوا يعتبرون فرعون مصر بمثابة إله، إلّا أنّ هؤلاء العمّال البرغماتيون تعاملوا معه كرب عمل فقط. وعندما شحّت مداخيل فرعون وتدنّت مداخيلهم قاموا بأوّل عمل عمالي منظّم في التاريخ بالإضراب عن العمل. الذي أوقع فرعون في مأزق لإعتقاده بضرورة القيام ببناء قبره، فإضطّر الفرعون “الإله” الى الإستجابة لمطالبهم. وهذا موثّق في المخطوط المحفوظ في متحف تورينو وهو أول وثيقة معروفة في التاريخ تتعلّق بإضراب وصراع إجتماعي.

     هذا الإكتشاف يؤكّد بأنّ الإنسان كما قال الفيلسوف الفرنسي “آرون” هو هو على مدار التاريخ. هناك دائماً قوى حاكمة وللحفاظ على مكاسبها تطغى وتستبد، وتجد دائماً من يعاونها من رجال دين كما حصل مع إمبراطوريات الغرب المسيحية. وهناك وهذا لحسن الحظ رجال أحرار لم نتميّز وحدنا في هذا، رجال تنظر الى المجتمع والواقع ببرغماتية وعقلية واعية وتفرض على هذه السلطات إحترام حقوقها. وهذا ما قامت به الماسونية والجمعيات التعاضدية في القرون السالفة.

قارن ما بين شكل المحافل الماسونية وشكل محفل دير المدينة.

 

في بلاد ما بين النهرين.

Jean Bottéro  (ولد في 30 أغسطس 1914 وتوفي في 15 ديسمبر 2007)  هو مؤرخ فرنسي، متخصّص في علم الآثار ومتخصّص في الكتاب المقدّس، وتاريخ الشرق الأوسط القديم وواحد من أكبر المتخصّصين الدوليين من بلاد ما بين النهرين. اكتشف ثلاثية ( محفور مؤلف من ثلاثة مقاطع) وهو عبارة عن قانون مؤلّف من خمسون بنداً لجمعية سرية تواجدت في الألفية الثالثة قبل الميلاد. هذه الجمعية تعود لما قبل دير المدينة، وكان لها طقوسها وأماكن لإجتماعاتها وكانت تستعمل كلمات سرّ وإشارات للتعارف. وفي البند الخمسون يشرح كيف ينهي المجتمعين إجتماعاتهم بالقول” فلنحافظ على السريّة والكتمان” الجملة نفسها التي يستعملها الماسون في أيّامنا وفي آخر إجتماعاتهم.  

 

في الصين.

     مثال على هذه الجمعيات “الثلاثي الأصلي”، كان الثلاثي الأصلي مجتمع سري، ولد في المعارضة لسلالة تشينغ مانشو في نهاية القرن السابع عشر. كان مؤسّسوها من رهبان دير شاولين (Shaolin)، حيث تمّ إبتكار الكونغ فو وتعليمه. وهو عبارة عن تجمّع وطني، أراد إعادة السلطة لسلالة مينغ القديمة. للوصول الى غايتهم دعموا ولمدّة قرون عديدة الثورات ضدّ سلالة المانشو. يمتلك أعضاء هذه الجمعية، لغّة مشفّرة وعلامات للتعارف، ومارسوا تخصّصات قتالية سرية.

     إلى جانب الآلاف من الجمعيات السريّة الصينية التي في الواقع بقيت سريّة من خلال عملها في الظلّ. نجد العديد من النقابات والأخوة ومجتمعات المساعدة المتبادلة. فالجمعيات السريّة الصينية كانت في آن واحد نقابات عمالية، ومجتمعات مساعدة ذاتية ومنظّمات سياسية، ومجموعات إقتصادية وما إلى ذلك. على مثال جمعيات العمال الأوروبية والماسونية واحدة منها.

في اليابان.

     ساموراي (باليابانية: 侍) أو بوشي (武士) هو اللّقب الذي يطلق على المحاربين القدماء في اليابان، الذين وعلى مدى قرون شكّلوا جمعيات حربية على مثال فرسان الهيكل في أوروبا، الذين لم يتميّزوا فقط بالأعمال الحربية بل بمعاملات نقل الأموال والتاثير في منظومة العقائد الخ…

خلاصة.

     لم نشأ في هذه المقدّمة إلّا وضع بعض الحيثيات لحثّ الباحثين على النظر بطريقة أشمل لعمل الجمعيات، بدل من التقوقع حول نشأة بعض التيّارات والتحزّب حول تاريخ حديث مبتور. إنّه ولمن المؤسف أن نصادف من يدّعي البحث الماسوني ويعيد عمل الجمعيات الفلسفية والتعاضدية والأخوية الى تلك الحقبة من القرن الثامن عشر أو السابع عشر ويتعصّب ويشكّل مذهب ويحارب الآخرين تحت مسمّى شرعية وأحقّية، لإرتباطه وإستزلامه لمؤسسة من المؤسسات الغربية.

     للمفارقة هذه التكتّلات تتناحر فيما بينها وتعادي بعضها لعِداء أسيادها فيما بينهم لتقاسم النفوذ. إذا كان عمال “دير المدينة” رفضوا الإنصياع لفرعون، فبالتأكيد الماسوني يرفض الإستزلام لمؤسسة غربية أيّا كانت، التي قد تكون راغبة في إستمرار إستعمار أو نفوذ غير مباشر.

     التأريخ هذا هو من الأسس الأولى التي تفرّق بين شيع الماسون، حتى أننا نحصي الآن أكثر من عشرات وعشرات المكونات التي تدّعي أحقّية لعودتها الى هذا أو ذاك التأريخ، أو إستعمال طريقة من طرق إدارة الإجتماعات.

    يهمّنا أن يكون الباحث حذر، إن تعدّد هذه الفرق لا تؤثّر في المسيرة الفلسفية والأخوية التحرّرية الضرورية في كلّ مجتمع وبلد. ما يجب على الباحث أن يعيه ويفهمه هو التطوّر التاريخي للفكر البشري والتقدّم الإجتماعي، ومعرفة أن الحرية ليست حِكراً يَمِنُّ بها أحد على أحد، بل هي ملك البشرية جمعاء التوّاقة الى الحرية والتقدّم.

    الدينامكية الماسونية أهمّ من التأريخ الماسوني، التأريخ يبقى لتبيان تطوّر الفكر وعادات المجتمع، فإن فاتنا حلقة من حلقاته هذا شيء مؤسف ويتطلّب العمل بجدّ لإكتشافه. إلّا أنّ هذا لا يقلّل من صورة الواقع الحالي والحقيقية. كمن يتحدّث عن تطوّر الطبيعة، إنّه من المهمّ وبجدّية أن نعرف حلقات التطوّر إن وجدت. إلّا أنّه، وإذا فاتتنا حلقة من حلقات التطوّر هل نقلل من أهميّة عنصر موجود ومتكامل الصفات!  

 

تحرّر من العوالق قبل أن تبدأ أبحاثك، قيمة الرجال (اسم عام يشمل الرجال والنساء) في كرامة حرّيتها.

 – حقوق النشر: الدكتور ميشال الخوري  © ٢٠٢١

error: Content is protected !!