الدرجات العليا.
دعاني أحد الأخوة إلى زيارة مقامهم (المقام إسم للمحفل في الدرجات العليا).
– مبدئياً لا يسمح لمن لم يتلقون التكريس بالدخول إلى المقام.
فشكرتهم على ذلك. وتمعنت بفضولٍ في المحفل الذي بدا لي نظاميًا من حيث أساسه وفرشه. ونظرت إلى سقفه الأزرق المزين بنجوم إصطناعية متلألئة وإلى أرضيته التي تشبه رقعة الشطرنج بلونيها الأبيض والأسود. وتمعنت في المنضدة التي عليها ثلاثة شمعدانات تحيط بكتاب. وتأملت صدر الغرفة حيث يفترض أن يجلس رئيس المحفل ومساعديه. وتمعنت كذلك في الصور التي تزيّن جدرانه والتي كان أبرزها مجسَّم لنسر مذهب ذو رأسين. وقال لي الأخ الذي كان يرافقني: أنت تعرف حتماً يا أستاذ ماذا يعني هذا “الرمز” رمز الدرجات العليا.
فهززت برأسي ولم أعلِّق. ربما لأني لم أشعر في حينه، وأنا أتأمله بأيِّ خشوعٍ إنما شعرت بغصَّة، وكأن شيئًا ما كان يشدُّني إلى الخلف ويدعوني إلى المزيد من التفكير، وكأنه ضمير خفيّ يمسك في تلك اللحظة بيدي لينبِّهني إلى خطر محدّق. ملاك شبيه بذلك الذي تحدَّث عنه جان كوكتو في أحد أجمل قصائده حين قال مخاطبًا ذلك الذي رافقه طيلة حياته:
أيها الملاك، يا حارس الأخوات التسع
أنت وحدك تعرف سرَّ مساري
ذلك الدرب الذي إن حدت عنه
سارعت للإمساك بيدي.
بعجبٍ وبصمتٍ كان كهنة معبد “رع” في هيليوبوليس يتأملون النسر المحلِّق في أعالي السماء. كانوا ينظرون بإعجاب إلى إنعكاس أشعة الشمس على ريشه ما يجعلها تتلألأ بألوان زاهية وعجيبة. كانوا يتأملونه وهو يدور ببطء محركاً رأسه بسرعة يميناً ويساراً ما يجعله يبدو وكأنه ذو رأسين.
– إنه “رع” ينظر إلينا ويتأمّل أفعالنا!
هكذا قال أحد الكهنة بصوتٍ منخفض…
– إنه “رع” الذي يذكِّرنا دائمًا بأن أوزيريس لا يموت إنّما يعود دائماً من جديد!
وينقضّ النسر من العُلى على فريسته التي حدَّدها، ويختفي عن الأنظار. ويصرخ الكهنة بخوف وبتعجّب:
– لا تخافوا… سيعود حتماً… لأنّ “رع” خالد لا يموت… وسيقوم أوزيريس من الموت من جديد…
في مصر القديمة كان الإله “رع” يُرسم دائماً وله رأس نسر. وفي مصر القديمة كانت أسطورة طائر الفينيق الذي لا يموت ترمز إلى الخلود وإلى القيامة.
ونتفكَّر أنه من اللافت للنظر كون العديد من المقابر التي بنيت هناك قبل آلاف السنين من عصرنا، وخاصةً منها تلك التي تعود إلى ما قبل توحيد المملكتين العليا والسفلى، كانت تحتوي على نقوش وتماثيل حجرية لنسر ذو رأسين.
فقد كان النسر على مرِّ العصور رمزاً لآلهة السماء. حيث يرمز النسر الكوني إلى أقصى ما تتطلّع إليه الروح الإنسانية من سموّ وإلى انتصارها على طبيعتها الشهوانية. لهذا السبب ربّما كانوا غالباً ما يصوّرون النسر وهو في حال صراع مع الثور الذي يمثل الشهوات الأرضية أو مع الثعبان الملتصق بالتراب والذي يمثل الشرَّ…
غالباً ما كان النسر يستخدم كرمز للشمس، وأحياناً كرمز للبرق وللرعد. كما أن الأصول الأسطورية للنسر الإلهي كانت تتصوره كائناً هجيناً أو إنساناً متحوّلاً غالباً ما يكون ملكًا و/ أو بطلاً أسطورياً …
تنجيمياً كان ينظر إلى النسر وكأنّه التجلِّي الأعلى لبرج العقرب الذي يعتبر الثعبان تجلِّيه الأسفل. أمَّا من منظور الخيمياء فإنه يرمز إلى الهواء الذي غالباً ما يتمُّ ربطه بعملية التصعيد. كما يمثِّل النسر ذو الرأسين مبدأ تزاوج الأضاد …
في الأسطورة اليونانية القديمة، كان النسر Aquila حامل بروق زيوس كبير الآلهة وناقل رسائله. من هذا الأصل اليوناني للكلمة اشتقت التسمية الإنكليزية للنسر eagle وكذلك تسميته الفرنسية aigle.
كما كانت البومة وهي من فصيلة النسر، الشعار الذي تبناه اليونان القدماء لإلهة الحكمة آثينا ولمدينة أثينا عاصمتهم وأعرق المدن اليونانية.
كذلك تبنى قياصرة روما شعار النسر ذو الرأسين الذين اقتبسوه من أعدائهم الفرس.
وقد انتقلنا إلى حضارات بلدان ما بين النهرين، فإن الأساطير تتحدث عن النسر الذي حمل الملك إيتانا الباحث عن شجرة الحياة إلى السماء. فالقصائد السومرية القديمة تحدثنا عن نسر وثعبان كانا يتعايشان بشكل مثالي حتى جاء اليوم الذي اختلفا فيه، فافترس النسر الثعبان الذي كان يتعايش معه، ما أغضب الثعبان الأكبر الذي قبض على النسر وسجنه في بئر عميق حتى جاء إيتانا لإنقاذه. وأيضاً، كانت الحضارات القديمة لممالك ما بين النهرين، تستخدم رمزية النسر ذو الرأسين للتعبير عن عظمتها القائمة على تزاوج السلطتين الدينية والدنيوية.
ثم أصبح النسر في المسيحية شعاراً للقديس يوحنا الإنجيلي وأحد رموز الأناجيل الأربعة المعتمدة.
أهم الرموز الماسونية وشعار أعلى درجاتها.
أقصد رمز الدرجة 32 التي تحمل اسم الأمير الأعظم للسرِّ الملكي، ورمز الدرجة 33 الأعلى منها والتي هي درجة المفتش العام الأكبر الأعظم. ما يمكن أن يفسِّر، إن انطلقنا من المشاركة على الرمز نفسه بين كلتا الدرجتين أنه يعني…
– أولاً: تزاوج السلطة المدنية المتمثلة في الدرجة 32 والتي شعارها باللاتينيةSPES MEA IN DEU EST، أي أملي بالله، مع السلطة الروحية المتمثلة بالدرجة 33 التي شعارها باللاتينية DEUS MEUMQUE JUS أو الله وحقِّي. و يعني…
– ثانيًا: أن السلطة الروحية المتمثلة في حالنا بالدرجة 33 هي الأعلى دائمًا.
وفي المقابل، كان طائر البجع الذي يطعم أبناءه من أحشائه ومن دمه هو الرمز الذي تبنته كشعار لها الدرجة الماسونية 18 التي تحمل إسم الأمير الأعظم للوردة الصليب.
أنتم تعيشون بشكلٍ سيء أيها السادة
إن النسر ذو الرأسين هو دليل مباشر على الأخوية العريقة التي تعرف اليوم بالماسونية. فإن الرسالة هي إن لهذا الرمز الجميل مفهوم إنساني وروحاني وسرَّاني أعمق وأسمى بكثير من مبدأ تزاوج السلطتين كما يفهمه بشكل سطحي جدًا وبدائي جدًا مع الأسف العديد من الأخوة.
لأن لحركة البنَّائين الأحرار أدبياتها وأسرارها، احد الشعارات الأساسية هو الفرجار والزاوية كما أن لها فقط ثلاث درجات أساسية هي المريد والرفيق والأستاذ. وبالتالي، فإن كلَّ ما يتجاوز هذه الدرجات الثلاث بحسب ما قاله لنا القطب الأعظم د\م\ خ\ على مثال أ\و\ قد يكون، إن أُسِيءَ فهمه، مجرَّد زؤان.
لأنه، وكما قال ذات يوم متحدثاً عن الدرجات العليا:
… القمة (في الماسونية) هي الأستذة: فمن يشعر بنفسه أستاذاً بالفعل لا يفترض أن يطمح لأي شيء آخر. لكن، لما كان الواقع ليس كذلك مع الأسف. لما كان كل من مثل دور حيرام لم يتشبع حقيقة روح طقسه. لما كان معظم من تلقّى هذا الطقس إنّما تلقاه بشكل منفعل ومن دون أن يتأثر به في العمق. لذا نراهم بقوا كما كانوا على حالهم. ما يجعلنا نتساءل: كم من أصل الكثيرين الذين يحملون المرتبة الثالثة، هم في الواقع أساتذة فعلاً… وحول كم من المحافل يحق لها الادّعاء حقيقةً بأنّها محافل “صاحبة حق وكاملة”، وهل من يديرها هم أساتذة فعلاً…
ونجد أن الماسونية الرمزية بمجملها ما هي في الواقع، ومع الأسف، إلاّ رمز لما كان يفترض أن تكون في الحقيقة. ونجد أن الماسون قد انتبهوا إلى هذا الأمر منذ القرن الثامن عشر، أي منذ بدأت الماسونية بالانتشار. حيث لوحظ أن من كانوا يُدعَون الأساتذة، لم يكونوا أساتذة فعلاً. وأن من كانوا يبتغون تطوير أستذتهم، إنما كانوا بحاجة إلى مشاغل أنشئت خصيصاً لهذا الغرض.
لهذا، افترض الواقع أن يتم انتقاء الأفضل من بين المعلمين الذين برَّروا تشكيل درجة رابعة من المعلمين الفعليين الذين كانوا ينقصون في المحافل الزرقاء رمز الدرجات الثلاث الأولى. وأصبح اللون الأحمر هو لون مشاغل الدرجات العليا.
لكن، لمَّا لم توفّق الدرجة الرابعة عملياً في تجاوز تلك الثالثة على أرض الواقع، فإن كل ما حصل كان مجرد مزاودة أدت إلى مضاعفة الدرجات التي لم تتوقف عند الرقم 4. ولم التوقف عنده والرقم 7 أكثر روعة منه؟ وكان هذا ما حصل… إنه من أجل هدف نبيل، هو تحسين مستوى الماسونية والتحقيق الفعلي للأستذة الحقيقية، وظهرت طقوس عدّة للعمل على وضع تراتبيات لا تنتهي من الدرجات التي أضحت تعرف بالعليا.
من هنا، نفهم لماذا انتقد جميع الذين تعمّقوا في دراسة الثلاثي الأساسي والحقيقي للماسونية، بقسوة، ما أسموه “زؤان الدرجات العليا” معتبرين إياها مجرد ترَّهات لا تسهم إلا في ضياع الروح وفي تشويه الصورة الحقيقية الماسونية.
ونحن نعتقد أن هذا النقد مبرّر إلى حدٍّ كبير. لأنه إن كانت طقسية الدرجات الثلاث “الرمزية” الأولى تحمل إلى حدٍّ كبير في طيّاتها بصمة المعلمين، فإنّ لا شيء في المقابل أقل جدارة من رمزية تلك الدرجات التي أسمت نفسها بالفلسفية. فمن كل شيء فيها تفوح رائحة الابتذال. وهي لم تنعكس إطلاقًا، كتركيب مضيء، للفكرة المسارية…
لكن دعونا لا نلقي الحجارة رغم هذا على مخترعي تلك الدرجات العليا لمجرد أنهم أخطأوا في إلهامهم. فهدفهم كان نبيلاً ألا وهو التوصل إلى الأستذة الحقيقية. لذلك، نحن نعتقد أنهم إن أخطأوا المرمى خلال بحثهم عن اللغز الأكبر، فإن جهودهم المخلصة تستحق كل التقدير. كما تستحق أخطاءهم المزيد من التعمّق والمزيد من الدراسة…
في اختصار، إن ما في وسعنا استنتاجه في المحصلة هو أن الحاجة إلى تلك الدرجات العليا ما كانت لتظهر لو لم تتحول الدرجات الثلاث الأساسية الأولى إلى مجرد أحرف ميتة. لأنه لو لم يحصل هذا، لو كان بوسع المحافل تخريج معلمين حقيقيين، فإنه سرعان ما ستفقد هذه الدرجات (العليا) مبرّر وجودها…
لذلك، وبانتظار تحقق هذا الأمر، دعونا نبقي للأمل فسحة…
– حقوق النشر: الدكتور ميشال الخوري © ٢٠٢١