الدّين والسعادة ..
يقول المتديّنون القشريين عادة:
- كلّ من ليس على دين معترف به (جميل الإعتراف! وجميعهم لا يعترفون ببعضهم البعض)، هو مكتئب، غير سعيد، يفتقد الى السلام الداخلي الخ…
- كما يقول أصحاب هذه المذاهب أيضاً أنّ السعادة والإنشراح والتكامل لا يكونان إلّا ضمن محشرهم.
المقولة الثانية هي عكس ونقيض المقولة الأولى. ولا يعني أنهما متلاقيتان في النتيجة كما يتوهّم البعض ولكنهما متلازمتان، إذ أنّ الكتب قررت أن المُعرِض عن ذكر آلهتها سوف يعيش حياة بائسة في الدنيا والآخرة بعكس الشخص الذي يذكرها فإنّه يعيش بقلب مطمئن بعيداً عن حالات القلق والتوتر الذي يؤمن له الحياة المريحة والطيبة، كما أضافوا أن الإلتزام يكفل للإنسان سعادة الدنيا.
هذا الكلام يستحقّ التوقّف عنده وتسجيل بعض الملاحظات:
إنّ الواقع يكذّب هذه المقولة، فالكثير من المتدينين في مجتمعاتنا يعيشون حياة بائسة وصعبة من جميع الجهات والكثير منهم مصاب بأمراض وعقَد نفسيّة وأزمات حادّة مع إنّهم يُلزِمون أنفسهم بالطقوس كثيراً، وفي المقابل نجد أنّ الكثير من الناس اللاّدينيين في الغرب وخاصة في الدول الأوروبية يعيشون بسعادة كما أثبتت الدراسات والإحصاءات، وهذا يعني عدم وجود ملازمة بين عدم ذكر آلهتهم والشّقاء في الحياة ، ولا بين إعتناق أحد هذه الأديان بالشكل الذي يقدّمونه والسعادة في هذه الدنيا.
على فرض أنّ هذه الأديان المتعدّدة والمتناحرة تجلب السعادة للإنسان فربّما تكون سعادة موهومة كما يشعر المتأمّل بنشوة، ولا أحد من العقلاء يقبل بهذه السعادة الزائفة كما يقال مثلاً للطفل اليتيم بأنّ أباك قد سافر الى الصين وسيأتي لك بهدية عندما يعود، فربما يقبل الطفل بهذه الخدعة ويرتاح مؤقتاً، وربما وعود بعض الأديان قد تنفع في بثّ الصّبر والسكينة في نفس المقلِّد الأعمى الذي يواجه مصاعب ومصائب في حياته وقد تمنحه الأمل بالسعادة أيضاً. يكثر البوذيين من القول بأنّ آلهتهم تستجيب لهم إذا دعوها وبأنّها تنصرهم على أعدائهم في وقت الشدّة! ولا يوجد على سطح المعمورة بلاد أكثر فقراً وتعاسة من بلادهم.
فلننظر الى مجتمعاتنا التعيسة، البائسة، الفقيرة، المغلوبة الخ… هل قلّلت من الدعاء أو الإلتزام؟.. فلماذا هذا التناقض؟.. لنجد هذه الشعوب أقلّ عمراً من الغربيين، كما أنّهم أقلّ سعادة ورخاء ونعمة في العيش!..
أنظر الى الحروب الدينية التي سادة وما تزال تسود في كثير من بِقاع الأرض، وكلّ فريق يدعو ربّه لنصرته وإذلال أعدائه. وللأسف لم نجد أحد يُنصر بدعواه في أيامنا هذه بل بالعكس لوجدنا الشعوب التي تتمسّك بالدّين القشري هي التي ترزح تحت وطأة المحتلّ. كم من الدعاوى وقعت من الشعوب المحتلّة على المستبدّين في أرضهم وأعراضهم وقُسْ على ذلك في كثير من البلاد الأوسطية، لماذا هذا التناقض؟ هل ما يدعونه لا يستجيب؟ أم أنّهم في الطريق الخطأ!.. أم أنّهم خرجوا عن مفهوم الدّين الحقيقي وانشغلوا بأشكال الطقوس الخارجية وبالتفرقة الحزبية؟ وإلاّ لكان أصل الدّين خطأ وهذا ما لا نرجحه ولا نعتقده، الخلل يكون إذا في الأفراد وفي طريقة تديّنهم… هذه الفرضية تضع الملتزم القشري في حيرة. فعندما يرى خسارته وقلّة حيلته بالرغم من إلتزامه بعادات وهيئات، فإنّها تزعزع ثقته بالوعود في الحياة الآخرة عندما لا يرى فائدة في الحياة الدنيا من دعواته. وهنا نفهم إنتقاد أهل العرفان للدّين القشري الذي لا يشكّل ضرر الى جوهر الدّين فقط بل يزعزع الثقة به من العامة.
نسأل: ما المقصود من طمأنينة القلب الذي يترتّب على ذكر بعض الآلهة، ومنه يعلم الشقاء المترتب على عدمه؟ إذا كان القصد راحة البال والنفس فالبهائم أيضاً تعيش راحة البال وسكينة النفس. أو الإيمان المشتعل في نفوس الإرهابيين الذين يعيشون بعض هذه الحالات أيضاً بحيث أنّهم مستعدّون لتفجير أنفسهم وقتل من حولهم لشدّة إيمانهم بدينهم. أو يكون القصد راحة البال مع الرقيّ في الإنسانية وإكمال مكارم الأخلاق وطمأنينة القلب الذي لا يشوبه شكّ وتردّد في إيمانه.
إنّ السعادة التي ينشدها كلّ إنسان في الحياة على نوعين: سعادة مجازية ومؤقتة، وسعادة حقيقية ودائمة، فربّما يشعر أغلب الناس بسعادة عندما تسير معيشتهم كما يرام وعند توفّر الحاجات الأوّلية من الطعام والمسكن والصحة والأمن والزواج وأمثال ذلك، أو يشعر العاشق بسعادة إذا تزوّج بمعشوقته، أو حصل المرء على ثروة كبيرة من ميراث ويتمكّن بواسطته أن يوفّر لنفسه كل ما يحتاجه في حياته، ولكنّ مثل هذه السعادة مهزوزة ولا تدوم فربما يقوم حاكم جائر بزجّه مع الملايين من الناس في حروب طاحنة أو يتعرّض هذا الشخص أو إبنه لمرض عضال أو يخسر ثروته أو تفقد معشوقته جمالها الساحر أو تتركه بعد فترة و.. من هنا كانت هذه السعادة غير مطلوبة لأصحاب العقل والوجدان..
أمّا السعادة الحقيقية كما يراها العرفاء وبعض علماء النفس تتحقّق فقط عندما يحقّق الإنسان المعنى لحياته ويحقّق بذلك ذاته الحقيقية ويرضي وجدانه (طبعاً تحقيق المعنى يختلف عن تحقّق الذات ولكنّهما متلازمان)، فيعيش البهجة والراحة الباطنية بإستمرار رغم وجود تحدّيات وظروف صعبة في الحياة، وهذه المرتبة من تحقيق الذات ورضى الوجدان لا تتحقّق بإتباع دين بالتقليد الأعمى كما يتوهّم الكثيرين، فلا معنى لأن تطلب من صديقك أن يضحك بدون أن تحكي له نكتة أو طرفة لأنّه لو ضحك بدونها فسيكون ضحكه مجازياً ولا يعبّر عن إنشراح نفسي، ومع حكاية نكتة سيضحك حقيقة دون حاجة لأن تطلب منه ذلك.. وهكذا حال من يطلب من الإنسان ان يذكر الله من دون الشعور بالإرتباط القلبي معه والعشق له، ومع وجود الحبّ لله لا داعي لأن يطالب بالذكر السطحي لأن حبّه لله يكفيه و يذكّرَهُ فيه دوماً، وهل تحتاج الأم لمن يذكّرها بطفلها؟
بمعنى أن الذكر الصادق مترتّب على وجود الحب ومعلول له لا أنّه علّة للحب فيما بعد، فالحب لله لا يكون من خلال الذكر اللّساني، وربما يكون مثل هذا الذكر بدافع من الأنا والنفس الأمّارة للحصول على الثواب أو لإقناع صاحبها أنّه مؤمن ومتديّن، ولذلك نرى الإرهابيين هم أكثر الناس لذكر الله والصلاة مع أنهم لا يفهمون معنى الحب إطلاقا.
إحدى الطرق لتحقيق الذات ونيل السعادة في الحياة وهو طريق الحب لله، ولكن طريق السعادة الحقيقية وتحقيق الذات وإضفاء المعنى للحياة لا ينحصر بذلك.. فبوذا مثلاً لم يكن يعتقد بإله ولكنّه وصل الى قمّة الكمال المعنوي والسعادة الحقيقية من طريق التأمّل وتهذيب النفس من رغبات الأنا، وهكذا حال المصلحين الانسانويين في البلدان الغربية..القاسم المشترك بينهم الخلاص من الأنا والأنانية وتكريس الشعور بالحب للإنسانية والفضيلة حتى تتغلّب على مصالحه الشخصية بأن يهتم المرء بتأسيس ميتم أو مدرسة وروضة للأطفال الفقراء أو يبني مشفى أو يشترك في إحدى المؤسسات الخيرية ويصرف بعض ماله ووقته على الأمور الإنسانية والخيرية أو يناضل ضدّ قوى الهيمنة والمافيات الموجودة في بلده أو يعمل على تثقيف الناس وتنوير عقولهم دون طمع شخصي من كل ذلك، أو يساهم في الإختراعات والإكتشافات العلميّة التي تخدم البشرية، أو يبدع في أحد الفنون إذا كان يملك الحسّ الفني كالرسم والنحت والموسيقى والقصة وغيرها.. ما نريد قوله أن الطرق لتحقيق الذات وإضفاء المعنى للحياة وبالتالي نيل السعادة الحقيقية الوجدانية متعدّدة وكلّ إنسان يملك طريق أو أكثر للوصول إليها ولكن أكثر الناس عن هذا غافلون
بإرتقاء العارف ترتقي معه الكائنات، فيفيدها وتفيده، فيصلان الى مبغاهما السّامي.
– حقوق النشر: الدكتور ميشال الخوري © ٢٠٢١