الرحلة ما بين العمل والتأمل
كيف نستطيع أن نتأمّل في عالمنا هذا المليء بالصخب والتناقضات؟
هل نستطيع أن نجمع ما بين التأمّل والعمل في عالم غابت عنه كل أشكال الترقّي الداخلي؟
هل نستطيع في حياتنا هذه الجمع ما بين استبطان عالمنا الداخلي وإظهار عملنا الخارجي؟
بكلمات قليلة الجمع ما بين نحت الحجر الجاهل والتأمل المستنير.
نتذكّر أنّه و منذ بضعة سنين عندما دخلنا الهيكل من باب منخفض معصوبي العينين وأعطينا النور ووعدنا أخوتنا بوضع قدراتنا في سبيل تحسين وتطوير العالم الذي نحن به. سعينا وبشكل متواصل على تحديد مساحة ملائمة لبناء المحفل. كما أننا وعند إعطائنا النور سمعنا الأستاذ يقول “ليرى وليتأمل”. المكان الذي استقبلنا به يسمّى محفل، والذي يفيد بأن المكان مغلق على أعين العامة والمتثنى له الرؤية فقط من خلال القبّة المفتوحة على الأفلاك العلوية.
من صفات التأمّل، النظر من خلال القبّة السماوية لمراقبة أو مشاهدة مساحة محدودة من السماء مجازاً والمطلقة عموماً. و هي تحثّنا على الإعتناء بمساحة أرضية كتلك المرئية سماوياً. فيكون في الأسفل كما في الأعلى وهكذا نكون.
النظر من القبّة يرينا الأزرق السماوي الذي ومن خلاله كان المنجمين يرصدون لتبيان وتفسير المستور. من هنا يقول أحد الأخوة الحكماء: “وهكذا يدخل المحفل في فلك القدسية التي تشير الى المعبد والذي به تلتقي القوى العلوية والغيبية مع الساعية المنظورة”. الذي يفيد بأننا نبني ونحضّر مكان لنلتقي به بالتأمل مع القوى الكونية الأولى التي تدخل من خلال التأمّل في حياتنا العملية واليومية. السعي يكون بإنتقال هذا المحفل المنظور الى معبد داخلي باطني لا يقتصر عمله على ساعات أسبوعيا إنّما بشكل مستمر ودائم.
إقامة معبد داخلي هو مشاركة الآخر بما تلقيناه من تجربتنا التأمّلية في المحفل.
مع الوقت يقوم الأستاذ بعملية تحويلية لأدواته المعمارية العملية التي وبعد الآن لن تقوم بأعمال معمارية عملية فقط إنما تتحوّل الى مفهوم للرمزية الداخلية الروحية والتي تقع مباشرة في مرمى الدرجات الكمالية. على الأستاذ أن يتأقلم مع التأمّل الباطني بإغلاق شفتيه، وهي الخطوة الأولى في الولوج في بحر العالم الداخلي. بإنقلاب الرؤية والقوى العاملة من منظورة خارجية الى غير محسوسة داخلية، عندها يدخل الأستاذ في الطريق التكريسية القويمة وهو بذاته عمل تكريسي.
يصبح الأستاذ بصفة العالم والباحث الذي عرفناها عند المصريين القدامى والهرمسية وليس بالكهنوت المعروف عند الفرق الدينية. الكاهن هو الحكيم الذي وصل الى مفاهيم مجتمعه الكاملة وتحوّل الى منارة وراشد للآخرين. يصبح الأستاذ هكذا بقدراته الداخلية وبقواه العقلية محطّ إسقاط القوى الكونية ويتحوّل الى مصباح أخوي كما المنارة هي للبواخر في مهبّ الأمواج.
العين المحفورة في المحفل تمثّل جزء من رسالة الأستاذ بمراقبة أخوته بلطف للتمكّن من توجيههم وإرشادهم وفي نفس الوقت إستشعار بوجود عين ساهرة عليه، والتي إن لم يكن في بعض الأحيان يراها فهي تراه دائماً، مما يدفعه الى الإلتزام والإنضباط، هذا يذكّرنا بقول الحكيم: “العين التي أرى بها النور هي نفسها التي بها يراني”، يصل بهذا الأستاذ الى تناغم وتناسق بين طموحاته الحقيقية وتجسيدها الخارجي.
التأمّل هو الوقت الذي يأخذه الإنسان بينه وبين روافد نفسه والتي تتيح له الوصول الى وعي داخلي وكوني متأتّي ومتأثّر بالقوة الكونية الأولى، الأستاذ يفرّق ما بين الصمت والخضوع الديني الموضِع للإنسان وما بين التأمّل الكوني الرافع للذات الداخلية. وبهذا يحقّق واجبه والتزامه.
إن اقتران العمل الدؤوب على مدى فترات العمل في الدرجات الرمزية مقروناً بمكتسبات درجة الأستاذ يكمل ويجسّد الكوني داخل المحفل. هذه الخيمياء تتطلّب قلباً نقي ونظرة رحمة وتواضع متفاني متجرّدة من كلّ ذرّة إستكبار أو نظر الى سلطة مادية أيّاً كانت. يقول الحكيم : “حيث يسود الحب ينتفى وجود سلطة، وحيث تتواجد السلطة لا مكان للحب، الواحدة هي ظلّ الأخرى”. الحب هو الحب بمعناه الخيميائي.
كما سبق وذكرنا هذا التأمّل والإستبطان بعيد كلّ البعد عن المسيرة الدينية، إذ أنّ الأستاذ لا ينفصل عن الوجود المحسوس المادي إنّما يتبحّر بالكونية لإرشاد المادية. الإنفصال والشطح في الخيال اللاّمحسوس ليس من صفات الأستاذ. من هنا نفهم الديناميكية الخيميائية التى لا تسعى للعلو والإنسلاخ عن الواقع الحقيقي بل العمل كأداة صلة ذات إتجاهين بين المرئي والغير مرئي. إذ أنّ الأول ينضج بالثاني والثاني يكبر بالأول. فيكون “كما في الأسفل كذلك في الأعلى”. هذا المحفل الداخلي الذي لا تكون ناره آكلة بل منيرة بما يجب أن تنير به وعليه. بكلام آخر لا يكون هذا المحفل بإستكبار بابل ولا بنفخ روح الإستعلاء والكبرياء في قلب الأستاذ. إنّما هو كالشمس تعطى كل مخلوق حقه من النور دون تمييز ولا منّة.
إنّ استعمال كلمة “محترم” كصفة للأستاذ هي في هذا المنظور الكوني وليس ذاك المعروف بالمحدود الديني.
بإمتلاكه المفتاح، يمتلك الأستاذ مفاتيح العوالم العلوية والسفلية، يعبّر عنها الطقس بالقول: “…القانون الوحيد والحقيقي هو ذاك الذي يساعد الى النظر الى المتعدّد بسويّة والى كلّ وحدة بأهمية…”.
ما أروع وما أسمى هذه الدرجة التي يصل إليها الأخ عند إمتلاكه مقام الأستذة.
يشجّع الأخوة الحكماء وبشدّة بالسعي ما بين هاذين العالمين المرئي والمحجوب إنّما يحذّرون من إسقاط روحية العالم المحجوب على المادة لأن عندها يتحوّل العمل الى ديني ويسقط الأستاذ في مهمته ويقع في المحظور الذي ينشّط الأوهام.
يركّز إرشاد الأخوة على التأمّل وفي التأمل يعمد الأخ الى الشهيق والزفير، من هنا على عملنا أن يكون كما في التأمّل التنقّل ما بين البرزخين كما ننتقل من شهيق الى زفير. تفيدنا اللّوحة الهرمسية بتفاصيل هاتين الرحلتين.
نتذكّر هنا لوحة الأخ كونرات ” kunrath” الخيميائية التي تمثّل الحكيم المثالي الذي جسّد في محفله هذا المفهوم الكوني الذي عليه أن يكون مثلاً للأستاذ. نرى في الصورة المحفل منقسم الى قسمين من على اليمين المشغل العملي مع أدواته ومن على الشمال المحراب للتأمّل…..
هكذا تعلّمنا الماسونية أن نقيم التوازن بين الأشياء وكينوناتها.
عند مقاربتنا الماسونية وفي أول لقاء وضعنا في غرفة التأمل مع لوحة كتب عليها “VITRIOLE”، وهي اللّوحة الخيميائية التي تفيد بأن علينا أن ننزل الى أعماق الأرض للتجدّد بالنار. تتحوّل هذه الرحلة الى رحلة داخلية عند الأستاذ التي يربط بها ما بين العالمين والمسارين والطريقتين.
نتمنّى للجميع رحلة تخرج النور من الظلمة والأبيض من الأسود ….
رحلة تصلنا الى هذا الحجر الزمردي المتواجد في أعماق كلّ واحد منّا….
رحلة تظهر الباطن الحقيقي وعندها يتحوّل كلّ منّا الى محفل قائم بذاته….
محفل على مثال لوحة أخينا كونرات….
أو على مثال المسلات المصريات الواصلة ما بين الأعلى والأسفل….
رحلة سعيدة نتمنّاها لكَ أيّها الأستاذ ما بين روافد الماسونية….
– حقوق النشر: الدكتور ميشال الخوري © ٢٠٢١