الشرّ والخير
هذه المقالة تمزج ما بين الفلسفة المعروفة وعلم النفس والنظرة العرفانية.
إن مبدأ الخير والشرّ هو من أكبر المبادىء المؤثرة في الفكر البشري. فمنذ القديم فرق البشر ما بين الخير والشرّ، واختلفوا في مصدرهما. فكان المعتقد الأساسي بأنّ الإنسان ضعيف وبأن هناك قوى أكبر منه، من هذه القوى ما يسيّر الرياح ويزلزل الأرض الى جميع المؤثرات الطبيعية عامة. فمنها ما هو خيّر للإنسان كالشتاء المعتدل والهواء العليل ومنها ما هو مضرّ وقاتل كالزلازل والبراكين وغيرها.
نُسِب الخير الى قوّة عليا سمّية بالله. وتساءل البشر عن مصدر القوى الأخرى الغير خيّرة للبشر فالتبست الأمور ونعتت بأنها قوى سفلية، سمية بشيطانية لإبتعادها عن القوى الخيّرة. فيما بين هاتين القوتين أو السلطتين هناك قوى متوسطة عرفت بأنصاف الألهة.
أدى هذا المنهج الى الخلوص، بأنّ الإنسان مكوّن من قسمين، قسم مادي خارجي يخضع للزمان والمكان، وقسم داخلي من مصدر إلهي أبدي أزلي يتوق الى العودة الى مصدره الأول.
هذه الثنائية أثّرت في الفكر عامتاً من الفلسفة الإغريقية الى الفلسفة الوجودية.
هذا المحرك هو أساسات الديانات الغنوصية والديانات المعروفة.
لم يسلم من هذا التفكير العلم الحديث فعلم النفس كما فسّره يونغ اعتمد هذه الثنائية ولكن مفسراً إيّاها على أنها قوى خارجية وباطنية.
المقطع الذي يلي هو بلغة علم نفسي غنوصي، لمن لا يعهد هذا الأسلوب يستطيع تجاوزه.
علم النفس
مَن نحن؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تتضمّن تعليلاً لطبيعة النفس psukhē؛ ومحاولةُ تقديم إجابة عن هذا السؤال قد سُمِّيَتْ “علم النفس” أو ممارسته (psukhē، في اللغة اليونانية القديمة، كانت تدل في آنٍ معًا على النفس، كمبدأ الحياة، وعلى الذهن، كمبدأ العقل).
لقد ميَّز كارل يونغ – اعتمادًا على الترسيمات الغنوصية الأسطورية – الوعي الموجَّه موضوعيًّا بالجزء المادي أو “الجسدي” من الجنس البشري – أي، بحسب الغنوصيين، ذلك الجزء من الإنسان المشدودَ إلى الدورة الكونية للكون والفساد والخاضع لقيود الجَبْر والزمن (راجع: كتاب يوحنا الغنوصي [سِفْر المخطوطات 2] 28: 30). إن الإنسان الذي يتماهى مع العالم الموجود موضوعيّاً يؤوْل إلى بناء شخصية أو حسٍّ بـ”ذات”، فيكون، من حيث الأساس، متكلاً كليّاً على البُنى المتغيِّرة أبدًا للوجود الزمني. وما ينجم عن ذلك من انعدام أيِّ حسٍّ بالديمومة وبالاستقلالية يؤدي بمثل هذا الفرد إلى إختبار القلق بأنواعه كافة، وفي المآل، إلى الإنصراف عن النماذج الغيبية ذات المغزى الجمعي للوجود الإنساني لصالح الإنكفاء على سياق ذاتي شخصي وخانق، تستهلك الحياةُ نفسَها في إطاره دون الرجوع إلى أيِّ مخطّط أو نظام أوسع.
غير أن هذه ليست هي النهاية الطبيعية للبشر.
إذ وفقًا ليونغ (وللغنوصيين)، ليست الذات المبنية زمنيًّا هي الذات الحقيقية: الذات الحقيقية das Selbst هي الوعي الأسمى الموجود والمتواصل فيما يتعدى كلَّ زمان ومكان الذي أطلق عليه يونغ اسم الوعي المحض أو الذات، في تمييز قاطع له عن “وعي الأنيَّة”، الذي هو الصورة المبنية والمحافَظ عليها زمنيًّا للوجود المنفصل (راجع: ك.غ. يونغ، “الرموز الغنوصية للذات”، في يونغ الغنوصي، 1992، ص 55-92).
وهذا الشكل الأخير للوعي “الدنيوي” طابَق الغنوصيون بينه وبين النفس psukhē، بينما طابَقوا بين الذات أو الوعي المحض وبين الروح pneuma – بمعنى العقل المنعتق من سياقه وقيوده الزمنية.
ولقد كان لهذا التمييز دورٌ هام في الفكر الغنوصي؛ وقد أخذ به بولس، بصفةٍ أخص في مذهبه في القيامة الروحية (الرسالة الأولى إلى الكورنثيين 15: 44). والأساس النفساني أو التجريبي لهذا الرأي، هو الإقرار بعجز العقل البشري عن تحقيق مساعيه العظمى مادام خاضعًا للقانون وللنظام الصارم لكون لامبالٍ ومتعالٍ. إن التمييز بين الروح والنفس يعيِّن بداية موقف مُسْتَعْلٍ ومخلِّصي تجاه الكون والوجود الزمني بصفة عامة.
الوجودية
تتضمّن الخبرة الأساسية للوجود التي وصفتْها الفلسفةُ التي تُعْرَف الآن بـ”الوجودية” شعوراً عامّاً بالعزلة والهَجْر Geworfenheit، أي “الإنقذاف” في/إلى عالم لا ينصاع لرغبات الإنسان الأصلية (راجع: جوناس، ص 336). إن الإعتراف بأن رغبة الإنسان الأولى أو الأولية هي في تحقيق أو ترسيخ ذات أو “أنا” يؤدي إلى إدراكٍ مزعج بأن العالم ليس متجانساً مع الكائن البشري؛ إذ أن هذا العالم (على ما يبدو) يتبّع مسلكه الخاص – المسلك المخطَّط له والمحرَّك مسبقًا قبل مجيء الوعي البشري بوقت طويل. لا بل إن النشاط الأساسي للإنسان – أي تحقيق ذات مستقلة ضمن العالم – يُنفَّذ على تضادٍّ مع سلطان أو “إرادة” (قوة الطبيعة) يبدو وكأنها تُحبِطُ هذا المسعى الإنساني بامتياز أو تُفسِده على الدوام، بما يقود إلى الإقرار بوجود قدرة مضادة للإنسان، وبالتالي مضادة للعقل؛ وهذه القدرة، بما أنها فاعلة على ما يبدو، موجودة حتمًا. غير أن حقيقة أن فعل تلك القدرة لا يتجلَّى كاتصال بين الإنسانية والطبيعة (أو الموضوعية المحضة)، بل بالحري كسيرورة ميكانيكية للضرورة العمياء، في معزل عن المسعى البشري، تضع الكائن الإنساني في مقام أعلى. إذ على الرغم من أن قوة الطبيعة قد تمحق موجودًا فرديًّا بشريًّا ما محقاً اعتباطياً بالسهولة ذاتها التي توجِده بها، فإن هذه القوة الطبيعية ليست واعية بنشاطها. أما العقل البشري، فهو على العكس، واعٍ بما يفعل. وبهذا تحدث فجوةٌ أو صَدْع – كنتاج للانعكاس – قد يتمكَّن الإنسانُ من خلاله أن يوجِّه نفسه، لبرهة وجيزة، مع ونحو العالم الذي يوجد فيه ويستمر. وقد وصف مارتن هيدغِّر تلك البرهة الوجيزة من التوجُّه مع العالم وفيه (نحوه) بوصفها “رعاية” Sorge، هي دومًا رعاية واهتمام بـ”اللحظة” Augenblick التي يحدث فيها كلُّ وجود. وهذه “الرعاية” [“الإنسان هو راعي الوجود”] تُفهَم بوصفها نتاجًا لإقرار الإنسانية بحتمية كينونتها نحو الموت. لكن هذا التوجُّه لا يكتمل أبدًا، من حيث إن النفس البشرية تكتشف أنها لا تستطيع تحقيق غايتها أو تحقُّقها التام ضمن الحدود التي وضعتْها الطبيعة.
وفي حين أن الضرورة المقيِّدة للطبيعة هي حقيقة بسيطة غير قابلة للشكِّ في نَظَر الوجودي، فإنها، عند الغنوصيين، نتاجٌ لمخطَّطات خبيثة من وَضْع إله أدنى، هو الديميورغوس (انصاف الهة)، تمَّ تنفيذُها عبر قانون هذا الإله الجاهل وبه.
بعبارة أخرى، فإن الطبيعة، في نَظَر الوجودية الحديثة، لامبالية فقط، في حين أنها كانت عند الغنوصيين معادية بالفعل للمسعى الإنساني: “إن القانون الكوني، الذي كان معبودًا ذات مرة كتعبير عن عقل يمكن لعقل الإنسان أن يتواصل معه في فعل التعرُّف، لا يُرى في حالتنا هذه إلا في مظهره القسري الذي يُجهِض حرية الإنسان.” (جوناس، ص 328). وبذلك يؤول الزمن والتاريخ إلى فهمهما كمنشأ للعقل البشري على الضدِّ من مفاهيم مثالية عبثية من نحو القانون nomos والنظام cosmos. المعرفة، من هذا المنطلق، تصبح مهمة مخلِّصة للنفس يكلَّف بها الجنسُ البشري.
والذات، إذ تعي نفسها، تكتشف كذلك أنها ليست ملكاً لنفسها حقّاً، بل هي بالحري أشبه ما تكون بالمنفِّذ اللاإرادي لمخطَّطات كونية. والمعرفة (الغنوص) قد تحرِّر الإنسان من هذه العبودية. ولكن، بما أن الكوسموس معاكِس للحياة وللروح، فإن المعرفة المُنجِيَة لا يمكن لها أن تهدف إلى الإندماج في الكلِّ الكوني وإلى الإنصياع لقوانينه: “فعند الغنوصيين […] لا بدَّ لغربة الإنسان عن العالم من أن تُعمَّق وتتسنَّم ذروتَها من أجل استخلاص الذات الباطنة التي لا يمكن لها أن تفوز بنفسها إلا على هذا النحو.” (جوناس، ص 329)
إذ ذاك يصير السؤال البيِّن “من أين جئنا؟” أكثر معقولية في محاذاة وضمن السؤال الأكثر دينامية “إلى أين نمضي؟”
في الحديث.
مع تقدم العلم وفهم انماط تكوين الأجرام السماوية من نجوم وغيرها، الى فهم تطوّر الأرض وما عليها، دخل الفهم في مفهوم متكامل يعتمد على التطوّر والتغيير الدوري، متعارضاً مع كونٍ جامد غير متحرّك منقسم الى قسم خيّر سماوي روحاني وقسم مادي أرضي فاني.
يتلاقى هذا الفكر مع الفكر الغنوصي والهرمسي الغير ديني. كما نجده في البوذية التجاوزية غير المتحركة دينياً. وفي الفلسفة الحديثة النسبية التي تمتلك جذور قديمة إنّما تألقت في الحديث. نفس هذه النزعة تجد براعم لها عند لاوتسو في التاو.
كيف نفهم النسبية.
النسبية هي حالة فكرية ترى الكون بمنظار يتجاوز الأحادية. ففي النظرة الأحادية يرى الإنسان ما وبما هو عليه. فعند حدوث أمر مرغوب أو غير مرغوب به، نقيّمه بإحداثياته الفردية الضيقة. كما في حال وقوع حدث مؤلم من حادث سير أو الإصابة بمرض أو التأثّر بتحولات مناخية من أعاصير أو زلازل أو براكين أو غيرها. فكلّ هذه تؤدي الى ضرر مكاني محدّد بأشخاص وتكون بالنسبة لهم ضرّر.
فلو انتقلنا الى النظرة الثنائية الشاملة، لما كان هذا الموضوع ضرر محض. إذ أن المريض بمرضه يؤمّن عمل للحكيم، فالطبابة هي مصدر رزقه وللصيدلي مقدّم الأدوية ولسيارة الإسعاف ولسائقها، كما لشركة السياراة التي باعت العربة ولمحطة البنزين التي تؤمن الوقود وللميكانيكي الذي يؤمّن له عمله ومصدر رزقه وعيشه. فالعمل الذي يعتبر سيئ على المستوى الفردي يصبح مؤمِّن للخير لعدد كبير. فمن المنظار الشامل لا نستطيع أن نقول أن هناك عمل شرير وعمل سيئ بالمطلق بل عوامل ومؤثرات متجانسة ومتكاملة. حتى ولو أدّى المرض الى وفاة هناك كثرة أيضاً تستفيد من هذا الموت، إن كان من البشر أم من المخلوقات القارضة الصغيرة. نرى هذا على جميع مستويات الطبيعة. فإفتراس أسد لظبية ينهي حياة هذه ويؤمّن الحياة للأسد، وليس للأسد فقط بل لكوكبة من الحيوانات من الخنافس الى الضباع والطيور الكاسرة.
من هذا المنطلق ومن تطبيقه على أمور وعوامل أخرى، نخرج من مسمّيات الشرّ المطلق والخير المطلق وتصبح الأمور نسبية. هذه النظرة في تضاد مع النظرة الثنائية التي تعتقد بالخير المطلق والشرّ المطلق. النظرة الأولى تنتج فكر سامي متساوي يدخل في فهم مدارات الكون. أمّا الثانية فتنتج أديان ثنائية المبدأ تؤمن بالخير المطلق والشر المطلق ومشخّصة إحداها بإله سماوي والآخر بساقط جهنّمي. أنظر الى المقالة “النظرة الكونية” في الموقع.
الماسونية.
تتميّز الماسونية بأنها ومنذ نشأتها استوعبت بشكل ظاهري وباطني هذا التمايز بإعتباره نوعاً من الغناء الوجداني. فلم تفرّق ما بين الأديان والفلسفات، باعتبار إحداها أعلى وأغلى من غيرها. ولا بين البشر باختلاف مشاربهم وأعراقهم. كما اعتقدت جازمة بأن الإنسان يتطوّر ولا يوجد شرّ مطلق ولا خير مطلق وأن الأمور تؤول الى النسبية. وبأنّ كل فرد من البشرية إن امنّا له الظروف والأطر لأعطى ما يعطيه غيره متمكناً من ذات القدرات، وأنّه لا يخضع لقدر قاهر بل لظروف مختلفة بالفهم. وقدّمت بأنّ هذا لا يتعارض مع وجود خالق عادل ومنصف الذي لن يفرّق ما بين البشرية إعتباطياً لإرتباطها بأصول عرقية ومن خلالها الى دينية. هي تؤمن بأن مهندس هذا الكون عادل ويترك للبشرية بالأخذ بالأسباب. واعتمدت هكذا النظرة النسبية الوسطية التي تعطي لكلّ حقه بحسب جهده وسعيه.
الهبات المجانيّة والقدر المحتّم يخرج عن مفهومها العادل والمنصف لمهندس هذا الكون، وتعلو حرية الإختيار الفردية. ولو سمّي عند بعض الشعوب بإله، وتاو، وكريشنا، وديوس، الخ… هذه المسمّيات لا تعبّر عن الجوهر، إلّا إذا كان كاملاً متكاملاً عادلاً منصفاً لجميع الخلائق وموجّه للعالمين من دون إستثناء، لا يفرّق بين عربي وأعجمي ولا أسود ولا أبيض إلّا بالجهد والأخذ بالأسباب. وإلاّ كان إله لفئة دون أخرى فتسقط عنه صفة الألوهية الجامعة الكونية. تنسب أكثر الأديان البشرية لآدم، فجميع الخلائق تصبح اذاً من أبنائه وفي صلب الأخوة الإنسانية. (راجع الماسونية ونوح في الموقع).
قصة هيندل (Heindel R+C) وأصدقائه:
بعد شرح درس في الفلسفة النسبية على الأسس الهرمسية وبينما كان يتمشى هيندل وتلامذته، اذا بهم يمرّون بجانب جيفة لحمارة كان قد مرّ بعض الوقت على وفاتها. وكان منظرها ورائحتها من البشاعة والنفور الذي لا يحتمل، بعد أن انفتحت أحشائها وخرج ما في باطنها وانتشرت عليها الحشرات وغيرها… سأل أحد أصحاب هيندل أستاذه: أين الحسن في هذه الجيفة؟ فنظر إليها هيندل وقال: انظروا الى بياض ونصاعة أسنانها!… واكملوا نزهتهم…
“كثيرة هي الاشياء المخبأة تحت أشكال وقصص ميثولوجية والتي تحيط بالحقيقة وتضفي عليها هالة مظلمة ومن خلالها تظهر الحقيقة بالشفافية” بلوتارك (Plutarque).
“نعيش في عالم من الموجودات غير المرئية التى تتجلى من خلال أمور مرئية” جوزف دو ماستر(Joseph de Maistre).
عُرِّفت الماسونية ب”مؤسسة تكريسية تعمل من خلال رموز”. والماسونية عامة تخصص للرمزية مكانة عالية.
المحافل التي يعمل فيها البناؤون الاحرار مزيّنة برموز مختلفة. الرموز تختلف من الزاوية والبركار المتشابكين، الى الحجر الخام الغليظ غير المنحوت والمشذّب، الى الحجر المكعب المنحوت الى النجمة ذات الخمسة فروع الى العواميد المصطفة بإنتظام، ام بالرمز الأشهر المثلث ذات الأضلع المتوازية الخ.
يتساءل الإنسان لماذا في هذا العالم الحديث، العقلاني والصناعي، في هذا العالم التقني الذي ينتصر فيه الفكر العلمي كوسيلة وكمعيار أحادي لماذا يهتم الماسون بالرموز؟ الا يوجد خلل منهجي في هذا؟ ألا نستطيع أن نقول أن العالم تجاوز الرمزية كوسيلة؟
بالعكس من كل هذا، يعتقد الماسون أن الفكر الرمزي يحتفظ بكل معانيه ويحتفظ بكل قيمته، ويعتقدون بأن الرمز من الطرق المحببة لمقاربة الحقيقة. وأن الرمزية في الوقت الحديث، تعتبر طريقة خاصة للمعرفة وتمكّن من إحاطة أمور الحياة بطريقة أسهل. ويعتقدون بأن الرموز تفتح أبواب المعرفة وتتيح الفرصة لأساليب تختلف عن الأساليب العلمية.
تتوازى للفرد عامة الذي يعيش في القرن الواحد والعشرون، المعرفة مع العلوم المخبرية والتقنية وكانها تشكل وحدة واحدة متكاملة. فهي منذ اوغوست كونت (Auguste Comte) تعتبر مجموعة من الأبحاث المنهجية التي ومن أهدافها إكتشاف نواميس للظواهر عامة. عملها يقتصر على الظواهر اولاً ومعرفة الأشياء وإقامة روابط وعلاقات بينهم.
” حيث تلاحظ المراقبة كائنات، تجد العلوم علاقات وتحاول تعميم هذه الروابط” لونوبل (R. Lenoble).
تهدف العلوم الى تحويل المُراقَب الى مجموعة من القوانين معبَّر عنها عامة بقوانين رياضية. “المعرفة “هي” أو “تساوي” القياس”، هذا التعبير يحجّم النوعية الى كمّية، الكائنات الى أشياء ويعمل من خلال شروحات عقلانية وتجريبية منهجية.
يحق لنا السؤال هنا: هل لنا الحق بتحجيم الوجود كله الى تمثيل عقلاني ورياضي وتقليص النوعية الى مفهوم الكمية والكائن الى شيء؟ كما نسأل أنفسنا هل أن المعرفة بمفهومها كطريقة وعمل معرفي يجب أن تختصر على الطرق المخبرية والتقنية. كما يحق لنا أن نسأل هل الحقيقة هي شىء أونتيجة إختبارية مماثلة للحقيقة المعرفية من النوع العلمي.
نلحظ أن العلوم الطبيعية ودون التقليل من قيمتها أومن نجاحاتها، بأنها منعت الأبحاث عن الحقيقة في مجالات أخرى وبالأخص في مجالات “الداخل” في الانسان. قال جورج غوسدورف (Georges Gusdorf) في مقدمة العلوم الاجتماعية “جوهر الفهم في الإنتظام المبني على الرياضيات… يبين لنا إشارات مفيدة جدا، إلا أنَّه من السخافة التخيل بأنه سيبين لنا معنى وحلول المشاكل الكبرى، التي تُطرح على الإنسان الساعي لمعرفة وضعه العام في هذا العالم” .
وكما قال الكي (Alquié) “بالنسبة لمقاربتنا وتلمّسنا للكائن، إن التاريخ الذي قاد الانسان وكل الناس من الأرواحية الى الميكانيكية، إذا كان نتيجة إنتصارتنا على الأشياء إلاً أنها ليست تلك المؤدية الى الفهم العميق للإنسان”.
من هنا ألا يجب أن نكمل هذه المعارف التقنية العلمية بأساليب أو طرق اخرى؟
بالرغم من يقيننا بأن الطريقة العلمية هي الناجعة الا يوجد شىء قد نضيفه ليعمق ويحسّن فهمنا؟
كان يقدم الفيلسوف ديلتي (Dilthey) المعادلة التالية “إذا ما عمّقت شرحك للطبيعة فهمت روح الحياة”. بما معناه إذا كان هناك مكونات ذاتية مختلفة وغير متطابقة لبعضها البعض في تكوين الفرد، علينا أن نصل الى هذه المكونات بطرق وأساليب مختلفة وخلَّاقة لإكتشافها.
كما في دراسة الطبيعة، لفهم مكونات الفرد الكائن علينا أن نستعمل أساليب مختلفة ومتناسبة لترجمة هذا الداخل. هل الرمز هو أحد هذه الأدوات التى من خلالها نستطيع سبر الداخل الانساني؟ أو بمعنى آخر ألا يساعدنا الرمز الى التقدم في فهم الداخل الانساني؟
الرمزية والرمز.
هل نستطيع أن نقول أن الرمز اداة تساعد الإنسان وبالاخص الماسوني الى الوصول الى المراتب الواقعية، التي تقدم طرق أخرى لفهم الطبيعة وبالأخص الانسان والكائن بشكل عام؟
لذلك ألا يجب التدراس والتساؤل حول الرمزية ومعانيها المستخلصة ووظيفة الرمز بذاته؟
في اليونانية القديمة كلمة رمز تستعمل للتعبيرعن شىء كسر الى جزأين ويحصل التعارف به من خلال مقارنة أحد الاجزاء مع الآخر، بما معناه الرمز يظهر الحقيقة بالتأكيد الجازم. فهو إشارة واقعية تفيد الى شىء مغيّب أو يستحيل إدراكه بالمقارنة التقليدية. وكأن الرمز جزء من الشىء المكسور والجزء الآخر موجود في داخل الإنسان، فيتلاقى المعنى عندها في الوجدان. فيكون الرمز مفعّل لقوة داخلية للتشخيص. نقول الثعلب يرمز الى الدهاء والأسد الى الشجاعة والحية التي تعض ذنبها الى الأبدية والحكمة. كما نستطيع أن نقول أن كل ظاهرة (رسم، مجسّم، قصة، حركة،الخ.) مشحونة بإنفعالات لحقيقة محسوسة أو عقلية تفيد و توحي معنى يتخطى ظاهرها هي رمز.
عند التحليل نجد لكل رمز قسمين يلتقيان في الوجدان. قسم محسوس ملموس واقعي خارجي كالبركار أو الزاوية موجودة في حيّز من الزمن والمكان. وقسم غير محسوس غير ملموس غير معبّر عنه كاملا بحروف يلتقى مع العنصر الخارجي في الداخل الواعي، كما أن الداخل الواعي يختلف من شخص الى آخر، يولِّد هكذا الرمز معانٍ وتعابير مختلفة.
الزاوية ترسل الى المساحة المستطيلة، كما أنها ترمز الى الارض والمادة. وتوصل الأفقي مع العامودي كما ترسل الى الفكر والأخلاق المستقيمين. البركار يرسل الى الدائرة والسماء ومن خلالهم الى النفس والروح والى ديناميكية الحرية المنظمة للكون. كذلك الشمس تتضمن قوة الحرارة والناروالنور والحياة والروح المطهّرة.
نلحظ بالتبادل أن الشىء الغير منظور يتجلى في أشكال منظورة، كفكرة القداسة التي تتمثل بالحجر القائم، أو بالهيكل أو بالتجسد بحسب المعتقد الفكري بحيوان أو انسان كالبقرة عند الفراعنة أوبوذا عند الهنود.
لذلك نقول أن الرمز يُدخِل الى فلك معرفي، إلاً أنَّ هذه الوسيلة مختصرَة بشكل وبحدود منتهية.
لا يوجد للرمز في العقل الواعي تفسير أحادي، فهو محفز الى حرية خلاقة في التعبير.
كتب جيلبرت دوران (Gilbert Durand) “القوة الشعرية للرمز تؤطر حرية الانسان”. هو علاقة ما بين المعبِّر والمعبَّر عنه. شبّه أحدهم الرمز كقطعة موسيقية، يختلف تقديمها وذلك بحسب مشاعر الفنان الذي يؤديها وبحسب تمرّسه ومعرفته الموسيقية.
بالرغم من أنه ليس للرمز معنى واحد، إلاً أنَّه لا يعنى أو يفيد أي شيء بل له “معنى خاص”. فإن كان له معنى خاص فما هو هذا المعنى؟
قبل الجواب عن هذا السؤال علينا أن نعيد النظر في التكوين الثنائي للرمز. في كل رمز هناك معبَّر ومعبِّر، تناسق، ملاقاة، تناسق جزئي بين الجزأين الظاهرين من خلال المقابلة. إلاً أنَّه بالاضافة لهذا التقسيم نجد طبيعة متجزأة ومتكاملة. شبه “أوجين فنك” (Eugène Fink) هذا بالإنسان المنفرد بذاته داخل الكون والذي يدخل في التكوين الكلي للكون.الإنسان بذاته فرد، محدود، منفصل والتكلم عنه يكون عن هذا الجزء إلاً أنَّه يفيد أيضا عن الإنسانية والكون عامة.
على مثال الأشياء كذلك الأفراد يمكن إعتبارهم كرموز، أي أشياء وأشخاص يرسلوننا الى مفهوم آخر. عبّر افلاطون عن هذا في كتابه المأدبة (Banquet) حيث أظهر كل انسان منقسم الى شقين أو قسمين، كل قسم يرسلك الى القسم الآخر. فكل رمز يظهر دائما مهما كانت حيثياته الوحدة الأساسية لعدة أشياء أو فسحات.
كتب رينيه غينون (René Guénon) أساس الرمز هو هذه العلاقة والإرسالات التي يظهرها ما بين حقيقة الأشياء الممتدة من العالم الحسي الى العالم الماورائي. يوحي الى الإنسان المحدود بالشكل أنه غير محدود من الداخل ولكنه متصل بما يوصله الى الإحاطة بكل شىء وتجاوزها في الوقت نفسه.
هكذا الفكر الرمزي والمدرسة الرمزية تبين وتكشف الحجب عن أشياء لا نستطيع كشفها ولا الوصول اليها بالطرق الأخرى. المعرفة الرمزية توصلنا الى معرفة “الكائن” و”الكون”. وكل هذا بصمت عن كلام كثير.
كل رمز يفتح الطريق على اللامتناهي. دون التقليل من علوم الرياضيات والعلوم التجريبية، الرمزية تخولنا الدخول في مجالات لا تصلها المعرفة التجريدية والمفاهيمية والاستطرادية. هنا نفهم التجربة التكريسية التي تكشف عن حقيقة أخرى للكلمات والحركات المحدودة المقرؤة في الكتب، هذه مفاهيم لا يعيها إلاً كل مكرّس وعلى حدة.
علاقة التكريس مع الرمز.
سنترك الكلام لبعض الشعراء لربما يعبرون أفضل عن هذه الرمزية.
يقول بودلير (Baudelaire): الطبيعة هيكل حيث القوائم الحية تلفظ كلمات مبهمة. يمر الإنسان من خلال غابات رمزية، تنظر اليه بنظرات مألوفة. ويقول في مقالة عن الحواس. الصوت لا يبين الألوان كما أن الألوان لا تبين الصوت ولا الصوت والألوان مجتمعة تنقل الأفكار. التبادل يكون بين متماثلات جزئية وهذا منذ أن عُرِف العالم بتكوينه الجزئي والمركب. اللفظ اللغوي غير قادر على التعبير عن جميع القدرات التبادلية بين مكونات هذا الكون. الموسيقى أسلوب من هذه التبادلات كما الفن بأقسامه. يصبح كل من يبدع خارج نطاق المنطق العلمي مترجم للقوى الخفية والمعرفة غير الحسية. نيتشه (Nietzsche) في كتاباته أبحر في الفضاءات الرمزية.
الرموز تشبه الشِعْر في مقاربته الإختلاجات الحياتية والوجدانية وأسرار النفس الإنسانية، الذي يسهل لنا بعض من الرؤية بشفافية ووضوح. فيكون الرمز خيط من خيوط المعرفة التى تعيننا في إدراك المعرفة الداخلية بوقفة على داخلنا السري. تفهمنا الرمزية بأن الحقيقة لا تكمن فقط بالمرئي ولكن لها تجليات في غير المنظور والمحسوس المتواجد في عمق اعماق النفس البشرية المكنون في داخل كل فرد.
كوسيلة صامتة يحول الرمز الصمت الى كلام، ويساعد كاسلوب معلوماتي في إتاحة الكلام والتعبير للجماد الصلب البارد. على مثال الشعر الذي يعطي الكلام للطبيعة والأشياء، متيحا لها الغناء بصفاوة، هكذا الرمز ولكن بزخم وبشدة اقوى.
إذا كان الكلام من الخصائص الظاهرية للبشر، الرمز وسيلة كونية لتعبير الموجودات داخليا بالإضافة الى أنه وسيلة للموجودات الأخرى من النبات والجماد وبالتالي وسيلة تحاكي الكون عامة.
إستعملت الماسونية الطريقة الرمزية والتي لا تقتصر على الرمز وحده بل أشركته مع الادوات الأخرى والتي منها الأساليب الطقسية، هذا التكامل إستدعي وفرض الطريقة التكريسية كمتوجة للطرق الرمزية عامة.
يقول في هذ الفيلسوف الالماني غوته (Goethe) ” هو أداة للخلق، الكلمة، الذي يحول عالم الظلمة الى عالم نور”.
يستعين الماسوني بترحاله التكريسي بالرموز ليبحث عن النور والإشراق، يبحث عن نور يغيير الكلمات، كلمات من لغة التجلّي في الكائنات، محولة الإنسان العادي الى إنسان كامل.
ضع النجم الساطع نصب قلبك فتستنير وتنير.
الرسم الذي يمثّل عند الآسيويين الين والين (Yin Yan) هو محاكات لإمتزاج القوى المدعوة خير وشرّ، سوداء وبيضاء الخ…
تتداخل هذه العوامل فيما بينها بشكل متجانس، كبحرين لا يمتزجان بينهما برزح لا يبغيان، لإضفاء الأستقرار الهرمسي.
– حقوق النشر: الدكتور ميشال الخوري © ٢٠٢١