الصوفية

الصوفية

القديس أغسطينوس، القديسة تريزيا، الأُخت إمانويل، المهاتما غاندي، المفكر باسكال، الغزالي، الرومي، الشيخ التيجاني يرتبطون فيما بينهم “بشئ” ويتقاسمون أشياء.

كل منهم حكيم وعليم وعالم بشكله الخاص. تربطهم حياة روحية عميقة كما عاشوا إنسانيتهم بشكل أعمق.

في سياق هذا التيار وفي جنوب شرق أسيا جسّدت البوذية هذه التفاعلات، كما نجدها في بلاد فارس والعالم العربي والإسلامي. تعبّر هذه المسيرة عن إرث وُرث وتطور بأشكال زادته غنى إن كان في القديم أم في الحديث.

واجهت الديانات المؤسساتية أزمة ومحنة مع تطور الفكر البشري والعلوم، فكانت هذه المسارات متوازية مع الدين في درجاتها وحدودها الأولى. كما تطورت التيارات الفلسفية خارج هذا الاطار وبشكل متوازٍ، فكان منها المثالية والمادية والنقضية المشككة وحتى الروحية الخ. من هذه المدارس من إعتمد قوة حكيمة مسيّرة للكون “الله” كما تعرِّفه الاديان، أم “الله فلسفي” كما لسبينوزا (Spinosa)، أم كما قال ديكارت (Descartes) والنعتزلة، بإستطاعة العقل إثبات وجود الله والروح من دون الوحي. شارك سقراط وأفلاطون التيارات المثالية كما تبعهم بلوتان (Plotin) وكثير من الفلاسفة في الحديث ليبنز (Leibniz)، هيغل (Hegel) وغيرهم، كما إختار آخرون المادية المحضة او المعدّلة.

نجد في أشعار الإغريق القدامى شواهد من أشعار وأفكار ودينامكية منطقة الهند وباكستان الحالية، الذين سبقوهم في التأريخ. الذين قالوا بأن خارج المادة لا يوجد الا العدم أو بتعبير اصح الفناء.

بالنسبة للماديين الله صنيعة هواجس الفكر البشري. والإنسان يعود بعد موته الى حقيقته الأولى التراب.

حقيقةً، لا يحيط الإنسان ولا العلم بما يحدث أو يقع بعد الموت. هذا ما يدفع البعض الى إعتماد الإلحاد. الملحد يؤمن بشئ، يؤمن بشيء يتجسد خارج نطاق الدين والفلسفة، هذا يثبت ما تعتمده العلوم الحديثة من علم إجتماع وأنتروبولوجيا ، بأن الإنسان ذات نزعة دينية اساسية. رفض فكرة لا يعني باللزوم بعدم وجودها.

وبين هاتين النزعتين نشأ تيار ” الاأدري” (Agnostiques) من يأخذ موقف المنتظر والمترقب لا يؤكد ولا ينفي، يضع هذه الأسئلة في مراتبه الثانية.

من المشككين من لا يقبل إلاً ما يتبين وبشكل جلي لعقله وفكره. في دائرة المشككين من يعتقد بأن الأمور المادية لا تُقبَل إلاً موثقة للعقل، إلاً أنّه يوجد مسائل تتخطى المادية، وسبرها لا يكون بالعقل إنما بشئ آخر ومنه التجربة الداخلية أو الوجدانية. هذه من أول الخطوات الصوفية الفلسفية. هذه المدرسة متواجدة منذ القديم.

عرف عن ابو حمد الغزالي، تجاوزه النزعات الأصولية في التطبيق الحرفي والأصولي للدين، كما إبتعد عن المتحررين الذين وضعوا حاجزاً ما بينهم وبين الدين. حاول الغزالي أن يقرّب الدين للإنسان من خلال الإسلام بعيدا عن التصلب والتزمّة، محرر المجتمع من بعض العادات التقليدية الموروثة من فترة ما قبل الإسلام.

قال الصوفي ذا الاصول المالية (مالي) في الحديث امادو امتابي با (Amadou Hampâté Bâ)، “للجبل قمة واحدة، أما الطرق المؤدية للقمة تتعدد”. هذا الشاهد يجسّد حقيقة الفكر الصوفي الفلسفي. مما يعنى وجود طرق أخرى قد تختلف عما هو سائد في الوصول الى الهدف المرجو.

هناك من يعتبر أن الوصول الى هذا الهدف قد يضطره الى طريقة او وسيلة يتلقاها ممن سبقه، بمعنى آخر “استاذ” او “معلّم”، كما في التيجانية، لم يكن بعيدا الفيلسوف الفرنسي باسكال (Pascale) و المفكر بوهيم (J.Boehme) عن هذا المفهوم. يبان هذا الفكر في كتاب “الأفكار” لباسكال. إلاً أنَّ نزعة باسكال كان تجرّدية، إختلفت مع الصوفية الفلسفية التى حاولت أن تقيم توازناً وتناغماً وإنسجاماً ما بين الإنساني والإلهي. هذا الإنسجام يتبين أكثر من خلال الصوفية الإسلامية، التي لم تهجر الدنيا كليا بل حاولت أن توازن بينها وبين الدين.

ظهر في الغرب تيار “الفلسفة المتعالية” (Transcendantalisme) التي حاولت أن تدخل الإنسان مع القوى العلوية أو المحيطة به ومنها الطبيعة. فهذا التيار يبتعد عن الدينامكية الدينية إنما يؤمن بوجود قوى روحية و علوية سميت ب”الطبيعية”.

هناك مدارس أخرى شبيهة بديناميكية هذه التيارات إنما اختلفت بالشكل في أفريقيا والهند الخ.
كما أن الفلسفة تتعدد مع الفلاسفة. هذه النزعات الوجدانية تعددت بإختلاف الأزمنة والأمكنة. فلكل برهة في وجدان الفيلسوف الصوفي حلاوة يستخرجها من تأقلمه مع واقعه من خلال مفهومه الداخلي. فمرجع البعض محبوبهم الإلهي، وآخرين الحكمة او الإنسان والإنسانية. وهذه التجارب لا تنتقل بالكتابة ولا بالمنطق إنما من خلال التجربة الشخصية. واحد اهدافها الإنخراط في المرجو أولا، ولو تطلب بذل الذات. هذا الإندماج يوصله الى اللذة والنشوة الروحية الكبرى.

لم ينكر الفلاسفة أحقية هذا المسار إذ أنَّ كانت (Kant) يقول، أن للفكر محدودية جوهرية. هذا ما فسّره إمتابي بشكل آخر بقوله”لا يحاط الله بتعابير كلامية، فلذلك نكون أقرب اليه في الصمت، الله لا يعقل بل هو حياة نعيشها”، كما تتفاعل الأم مع جنينها ثم مولودها وتمنحه الحياة والعاطفة من خلال حبل الصرة أولا، من دون كلام ومنطق وفلسفة هكذا المتصل بالله أو بالقوى العليا يحيا. وهذا ما يصنعه محبوبان عند الإلتقاء فلا كلام ولا منطق بل إندماج وهيام، وعندما يدخل الكلام بين محبوبين يتباعدان بالأجساد.

لربما تتلاقى هذه المدرسة مع نظريات الفيزياء الكمومية، التي تعتبر أن المادة ليست بنهائية إنما وسيلة وحالة مؤقتة ومتغّيِرة “نسيج وهمي”، هذا ما قالته الفيدا منذ أكثر من 4000 سنة. يقول عالم الفيزياء الكوني ستيفن هوكنس (Stephen Hawking) ” الهدف الأسمى للعلوم هو إكتشاف نظرية موحِّدة تفسّر الكون في مجمله”.
هناك تحذير يجب أن يبقيه الباحث امام عينيه عند دراسة هذه االتيارات والمدارس، وهو الإحتراز من عدم الشطح في هذه المسارات التي وكالدوامة تجذب صاحبها وتبعده عن واقع إنسانيته.
الماسونية عرفت هذه المدارس والتيارات وعرفت كيف تقيم التوازن الخلاق ما بين المتوجبات المادية والروحية للفرد. ففلسفة الماسونية تعطى إكتفاء وتوازناً كليين للشخص الانساني، أنَّى كانت جذوره الحضارية او الفكرية او الدينية، محافظةً هكذا على خصوصيته وفاتحةً أمامه أبواب الفكر عامة.



 – حقوق النشر: الدكتور ميشال الخوري  © ٢٠٢١

error: Content is protected !!