العقلانية والرمزية
كثيرا ما يتناقش الباحثين حول مكانة العقل أو العقلانية في مجالات حياتنا مقارنتاً مع الأدوات الأخرى التي تدخل في تركيب الفكر الإنساني. منهم من يعتقد مقتنعا بأن العقل وحده هو الطريق الآمن للبحث والمناقشات ومنهم من يعتقد بأن هناك وسائل أخرى تحاكي المكونات الإنسانية.
بمعرفتها للتكوين الإنساني ومرتكزةُ على خبرة لآماد بعيدة وطويلة تقدّم الماسونية طرق مميزة تساعد في فهم الشخص الإنسانية، ومن هذه الطرق الطريقة الرمزية التى تحاكى داخل الإنسان ووجدانه.
العقلانية.
العقلانية تعطى للإدراك الواعي والدراية مكانة كبيرة في الأبحاث التي نقوم بها في التفتيش عن الحقيقة وفي مجالات تطور الفكر البشري وبالتالي البشرية. من الصعب إهمال هذه الديناميكية في تفكير وأعمال المستنيرين في القرنين السابع والثامن عشر. وبخاصة الأعمال العلمية التي ساهمت بتطوير العلوم والمعارف، التي قادت الى عتق البشرية من أثار الطبيعة السلبية والوصول الى كبح وترويض هذه القوى. إن كان من جهة العمارة كالطرقات والسدود وأطراف مجاري الانهار والجسور المعلقة والغير المعلقة. الى فهم الأسرار النباتية وإستخراج العقاقير النافعة الخ. وبفضل هذه العقلانية توصلت البشرية الى حل المسائل والطروحات التي تلاقيها يوميا. من تقصير المسافات بآلات النقل والإتصالات الى تقريب الأفكار بواسطة الجامعات والمدارس والمراكز البحثية.
بالنسبة للماسوني، العقلانية تنصب أمامه أهداف ومنها بث النور بين إخوته في الإنسانية، الماسونية ترتكز على العقلانية في مجالات الوعي كما في مجالات العمل. فهي تنصر العقل على الخيال والأحاسيس المتشبثة في بعض المخيلات. بمعنى رمزي آخر تنصر النور على الظلمة.
المتحدث بالرمزية الحقيقية الواقعية يقول: أقر بكل وضوح أنه وعندما أريد أن أصل الى الحقيقة الواقعية التقنية والعملية، علي أن التزم بعقلانية وبمنطق صرف. إلاً أنّه ومهما بلغت هذه العقلانية نبقى في شكل من المحدودية الأستكشافية.
العقلانية تضيف واقع على الفكر، بعلاقة تضمينية للوعي المتجرّد والمتحرر من الأوهام. ففي تقارب الأفكار نجد الوعي الرياضي (من الرياضيات) و الوعي التجريبي في الأعمال العملية وبخاصة ما بين الهدف الذي ننصبه أمامنا وطرق تحقيقه.
في الحقيقة ما هي الإفادة التى تتأتى من هكذا منهج للتفكير، إن كان على مستوى الأهداف المطلوبة أم على مستوى الأعمال التي نقوم بها وبالتالي مسائلة معنى وجودنا!
في مسرحية “دون جوان” التي كتبها الكاتب الفرنسي موليار بسأل “سغاناريل” دون جوان “في النهاية بماذا تؤمن؟” ويجيبه “أعتقد بان 2+ 2 تساوي اربعة، و 4+4 تساوي ثمانية”. هنا يتكلم بعقلانية خالصة التي لم تكن لتبرر ولتفسّر نمط حياته الذي كان يتسم بالتراخي. يقبل لنفسه العيش بتراخي بعيداً عن الواقع العقلي، الا انه يدّعي التفكير بعقلانية حسابية.
يقول الكاتب البريطاني “دافيد هيوم”: العقل يهدينا الى طرق وأساليب قد تكون بذاتها غير قادرة على تحقيق كل الأهداف. أذ أن العقل قد يدفعني الى قبول الضرر لكثرة في سبيل الخلاص بنفسي من خطر محدق. قد يخال بأن هذه المسألة هي في مجال الأحاسيس والشعور. هل نقبل القول بأن العقل غير قادر على حل مسائل قد تكون الأكثر حساسية للانسان، ألا وهي المسائل الشعورية والحسيّة. من هنا وجب على الإنسان والبشرية أن تختبر عالم الذاتية والشخصية وعدم إهمالها لانها تشكل حيز كبير من حياة الفرد والإنسانية، إذ أن الإنسان لا يختصر بالتجارب المحسوسة والمناظرات العقلانية. هنا يبان لنا قصور العقلانية في بعض النواحي في سبرجميع مكونات الشخص الانساني.
قال الفيلسوف الفرنسي فرديناند الكيي (Ferdinand Alquié): ” التاريخ الذي قاد الأنسان من الأرواحية (او البدائية الفكرية والحضارية) الى الميكانيكية، اذا ما أتى بانتصارات على المادة لم يحقق بالتأكيد التعمق في النفس البشرية”.
لو أردنا الإسترسال في التنظير لقلنا، أعلمتنا علوم الأحياء ان للشجر تركيب يتضمن الكلوروفيل وعرفنا تركيبها وعملها الدقيق ولكن هلى نعرف “كون الشجرة”، الشجرة تعيش وليس لها دماغ الا أن الشجرة موجودة وتأخذ حيز ولربما بالنسبة لها هذا الوجود له معنى كما للنملة او الحشرة الصغيرة والذي لوجودها هي وبالنسبة لها معانٍ. معنى لا يدرك بالتجربة ولكن لربما بالدراية الواعية.
كثير من المكونات غير المحسوسة للشخص البشرية قد تخرج من حدودية العقل، مثل مسائل العاطفة والحب والحنان والإخلاص والتعاطف الإنساني والأخوة الإنسانية كما تعلوها الماسونية الخ.
من هنا وفي هكذا مسائل نجد حدود للعقل لأنه لا يستطيع أن يسبر مسائل لا صلة لها بالمنطق الفكري الرياضي او التجريبي. بالرغم من أن بعض العلوم الإنسانية والطبية تحاول جاهدة عقلنة هذه المسائل إلاً أنها ما تزال في طور الحضانة في هذه العلوم، اذا ما اكتُشِف ما يرضي العقل لا يستطيع من يجل فكره ان يرفضها عندها.
إذا كان العقل يقف حاجز أمام هكذا اسئلة فمن هو القادر على إعطاء الحلول. يقول اوغوست كانت (Auguste Comte) المحجوبات أو الماورائيات محيط من حولنا لا نملك فيه لا مَركَب ولا شِراع، الا يوجد شئ أخر في ادوات الفكر خارج عن العقل والتجربة العلمية؟
العقل البسيط يطمئن لمن يقول له أنا أعرف، أعلم ماذا يوجد بعد حدود الملموس والمختبر، عندي رسالة وإتصالات وسلطة من الغيب تعطيني أفضلية عليك الخ. العقل البسيط يفرح بمن فتِّش عنه! أو أسديت اليه مهمة إعلامه بما وراء الحُجُب. وبمجرد النطق برسالات سماوية أو ما ورائية أو تنبؤية ستجد من يفتح آذانه صاغياً. أما الدراية الواعية العاقلة فتتأنى!
تتكون الشخصية الإنسانية من عدة طبقات ومنها ما هو غير مؤطر ولسنا بقادرين على توصيفه بكلمات، منها مكونات غير محسوسة وغير ملموسة وهذه من المسائل التى يقف أمامها العقل حائرا.
إعتمدت الماسونية لغة كونية قديمة للتعامل مع هذه الطروحات، اللغة الرمزية. هذه اللغة تساعدنا على الإبحار في المحيط الذي تكلم عنه “كانت”، ليس في هدف وضع خرائط مفصلة إنما لوضع أطر عامة وجامعة.
من الأدوات الرمزية الزاوية والبركار والمخل والمثلث الخ. كما يدخل تحت مسمى رمزي القصص الماسونية والطقوس والرحلات التكريسية.
تختلف الرموز عن الشارات وبخاصة تلك التي تستعمل في العلوم كالعلوم الرياضية التي هي رموز عقلانية. الرمز يفيد اللاواعي وغير المحسوس وغير المنظور بطريقة تفضي الى ظهور المعنى في داخل الإنسان. هذه طريقة غير تجريبية علمية إنما ثبتت واقعياً من خلال التجارب الفردية والجماعية على مدى ازمنة.
مَثَل شجرة الحياة، هذا رمز ليس بماسوني تحديدا انما يجسّد شئ يستصعب التعبير عنه بكلمات محدودة، مما قيل فيها بأنها الحياة التي يشترك فيها جميع البشر التي تتجذر في الأرض وتتبرعم بأشكال وأشكال تزداد حرية وهوائية. هذا بالتأكيد تعبير ناقص وغير متقن. فالرموز كهذه لا تفسّر ولا تترجم إلا أنها تحث على التفكير والتفكّر. يقول في هذا بيار امانويل (Pierre Emmanuel)، وكأنك تقشّر البصلة، لتجد تحتها بصلة أخرى. إلاً أنّه ومن وراء الظاهر يفتح على معاني وبعد أعمق. فيكون الأدات المثلى لسبر أغوار المبهم والخفي الإنساني بخلاف الظاهري الذي يبقى في قشر سطحية للأنسان.
السؤال الذي يطرحه العقلانيون هو، لربما الرمزية تفتح لك الأبواب على ترجمات مختلفة وتتجسد مختلفة من إنسان الى آخر، إلاً أنها وهكذا قد تكثر من الحقائق. إذ أن العقل البشري العقلاني لا يقبل الكثرة في الحقائق يميل الى الاعتراف والتفتيش عن حقيقة واحدة، لربما هنا الخطأ إذ أنه يقيس حقيقته على حقيقة خارجية محدودة كمثل 2+2 تساوي اربعة ولا شىء غير أربعة، جواب واحد وحقيقة واحدة. الإختلافات البشرية قد تفضي الى إختلافات في الهدف والمنهج وبالتالي إختلاف في الخلاصات ذات الأولوية النسبية لكل فرد. بما أن عالم الكثرة يتضمن تعدد في المكتسبات ألا يؤدي الى تعدد في الأهداف المرجوة، والمقدّرَة بقدر عالي من الإحترام والإجلال يقارب التفتيش عن مبتغى حقيقي. الرمزية لا تتعارض مع التعددية مهما كانت، بل تحسبها من واقع التعدد البشري.
من هنا لم تسعى الماسونية ومن خلال الطريقة الرمزية الى الوصول بأبنائها الى عقائد ومعتقدات تشبه عقائد الأديان، هذا ليس من أهدافها. الماسونية ترغب في أن تعطي كل شخص إنساني حقه في تطوير مقدراته وأهدافه السامية. فمن هنا لا تشبَّه بدين يتعبد به ولا ببدعة أو حزب يتعصب له بل هي مدرسة تفتح الأفاق الكبيرة ودون حدود تاركة حرية الإبحار وتحديد الأهداف لكل باحث وعلى مختلف مشاربه.
إذا أُخِذَ رمز بشكل فردي لكان محتواه غير واضح، إنما جمع أشكال رمزية مختلفة وتقديمها بشكل واقعي يعطي المرء كل الحظوظ ليكون له درس وجداني وداخلي يغيّر معنى ومجرى حياته. قال صموئيل بتلر (Samuel Butler) الدين فارغ إذا ما اقتصر على بعض الحروف إلا أنه يكتمل بروحهم.
.على مثال لوحات المندلا اللوحات الرمزية للدرجات الأولى تجمع ما بين عدة رموز المثلث، المحفل، القواعد الثلاثة، الوقت، أدوات العمل الخ. كل هذه مجتمعة تشكل رسالة متكاملة. تصبح الرموز عندها مفاتيح للعقل وتعيد هكذا الطريقة الرمزية للعقل مكانته وحريته مضيفة أدوات تعينه عند الوقوف على معسرة.
الإحتراز في إستعمال الطريقة الرمزية هو عدم الوقوع في الشطط وهذا ما وقع به كثير من الباحثين والجمعيات. إلا أنّه وعندما تكون الطريقة الرمزية مكمّلة للطرق العقلية ومساندة لها نخرج مفاعيل الشطط. مع العلم أن الطريقة الرمزية الصحيحة تلجم التخيلات السلبية. إضافة الى إرث ماسوني موروث وتقليد تقلّدته المحافل أثبتت تجاربها وإختباراتها. فالمدرسة الرمزية الماسونية تضمن الثبات ضمن أطر العقل الواعي للوصول الى الغايات المنشودة. كما أنه لا يصار الى تفسير الرموز بحسب الهوى الشخصي، هناك تاريخ للرمزية أثبت وعلى مدار قرون معرفته في الفخاخ والمطبات التى تقف أمام الباحث وذلك لعلم الماسونية بأصول الرموز وأصل نشأتها. رفض الفكر السحري والشاماني يقصي أكثرية الأوهام التي قد تتأتى من تفسير خاطئ للرموز. نحن نعتمد على الهندسة العارفة للمكون المادي للمسائل. فالعامودين على مدخل المحفل يشمخان الى العلى إلا أنهما يبقيا راسخين على الأرض وإلاً إنهدما على روؤس بانئيهم. عندما يستعمل الماسوني رمز المخل هذا لعلمه أن العامود لا يرتفع بقوة الفكر والخيال إنما بالأدوات المناسبة له. بنى البنائون الجسور والسدود والمباني الإدارية لعلمهم أن عمارة الأرض تبدأ بنحت الحجر. إستعملوا الحروف للكتابة لعلمهم أن الأفكار لا تنتقل على أثير الأحلام والخيال. هذا المنهج حفظ إستعمال الرموز من الشطط والوقوع في الخيال وأثبت ثباته وذلك على مدار التاريخ.
هذا المنهج وهذه الفلسفة لا تتناقض مع مبادئ الفيزياء، إذ أنّ العمارة تلزمك الأخذ بمفاعيل الجاذبية وإستعمال الأدوات المناسبة مع هذا العلم.
من هنا لا يجب الخلط ما بين الطرق الرمزية والسحر والعلوم التي تدعي الروحانية والسيطرة على القوى الماورائية أو إدِّعاء إمتلاكها.
فعندها لا تتعارض الطريقة الرمزية مع العقلانية الواقعية البعيدة عن الغلو.
مما تقدم لا نعتبر أن العقلانية قاصرة. ففي مجالاتها العقلانية هي المعيار. إلا أنَّه وبحسب الإختبار، هناك مجالات خارج هذا الإطار، تكون العقلانية موجهة وحامية للفكر من الوقوع في الشطط في مجالات القسم اللامحسوس واللامدرك من الشخصية الإنسانية.
التقت الفلسفة مع المفهوم اللامحسوس فيتكلم ديسكارت (Descartes) عن “كوجيتو” (Cogito) الذي لا يعتبر عدو للفكر ولكن من مكوناته الخفية. كما تكلم سبينوزا (Spinoza) عن ” كوناتوس” (Conatus) الذي هو على جذور الحب والكراهة والفرح والتعاسة فهو رغبة بالمعرفة، المعرفة العقلية. حتى عند “افلاطون” و”كانت” الفكر الفلسفي كان نتيجة إختبار وتجارب داخلية وعمل على الذات، بخلاف الإستخلاصات الروحانية.
هذه المقاربة تقرّب لنا معرفة العالم الذي لا ينكفئ على تكوينه المادي فقط إنما يلحظ مكان لعالم المعرفة والعدل والحب، عالم الرمزية. هذه المقاربات تنقلنا من العالم الحسّي وتفتح لنا ما يسمِّه الماسون عالم النور.
هل نستطيع أن نستخلص أن كبار المفكرين إستوحوا من عالم الرموز؟
افلاطون إستعمل عالم الأساطير ليوصلنا الى فكره، سبينوزا كان يعرف الكابال (Kabbale)، ليبنتز (Leibniz) كان من أفراد جمعية الصليب الوردي (Rose-Croix)، نيوتن (Newton) كان يعتقد معتمدا على الكتاب التوراتي بان الجاذبية هي مظهر من مظاهر قوة وفاعلية الله، حتى في الحديث أحد اكبر علماء الفيزياء الكونية ويرنر ويزمبرغ (Werner Heisenberg) كان يقول أن ظاهرة السعادة والحياة والإرادة الإلهية هي علاقة تدخل في الإنتظام الكوني.
هذا الإنتظام هو هو إن كان من الجهة العلمية العقلانية أم من جهة القوى المخفية الجمالية إذ أنَّ جميع القوى والفوارق تتلاقى في النظرة الكونية لإنتظام هذا العالم. فالإختلاف لا يقع إلا بين الظواهر المنحلة والمتقهقرة من علمية متصلبة أو روحانية متعصبة أما النظرة الكونية الرمزية فجامعة.
نحن على معرفة بأن الخلاف سيبقى بين مكونات العالم البدائية من علمية وروحانية إلا أنَّ الرمزية تحل لنا المشكلة إذ أنها تجمع بين الإثنين وترفعهم الى الترقّي.
يقول الأخ الباحث د. ▲ م. ▲ خ. ▲:
اقرأ،
اقرأ من داخلك مستعيناً بعقلك،
إبتعد عن الغلو والتعصب،
لا تترك للتراخي حيّز،
إفتح قلبك لأخوتك في الإنسانية،
أنظر الى الرمز،
وإصغِ الى الرجال.
وإصغِ الى درايتك.
– حقوق النشر: الدكتور ميشال الخوري © ٢٠٢١