العمل والتأمّل
كيف نستطيع أن نتأمّل في معترك هذه الحياة المليئة بالصخب والمجادلة. كيف نستطيع ونحن في وسط ورشة البناء بين أخوتنا المبتدئين والشغالين والأساتذة وفي صخب العمل المحافظة على الهدوء وإكمال مسيرة التثقيف والقدوة. كيف نستطيع أن نوازي ما بين المحافظة على الطابع الداخلي للسرية بإستبطان المعرفة والمحافظة على صراحة العمل في طابعه الخارجي.
قبل سنين عندما دخلنا الى المحفل معصوبي العينين من الباب الصغير أعطينا النور الذي بدونه يصعب العمل في العالم الخارجي وبه ومن خلاله حدّدنا المساحات وأعلينا وأتممنا العمل. ألم يقول لنا الأستاذ يومها ” فليساعدنا النور على الرؤية والتأمل”. ها نحن نعمل منذ سنين، واليوم جاءت ساعة التأمل المنتظرة. كان الجزء الأكبر من العمل داخل المحفل. والمنفذ الوحيد للمحفل بخلاف الباب كانت القبّة السماوية التي ومن خلالها كان النظر يخرج من فلك المحفل. اليوم سننتقل من الداخل والى داخلنا عبر التأمل ومن خلال القبّة السماوية وبنظرة كونية الى العوالم العليا. فأهلا بك أخي لأنك اليوم وبوجودك في المشغل تجمع ما بين العمل الخارجي الذي امتلكته خلال تمرّسك بالدرجات الرمزية وعلى مدى عدة سنين لننطلق من خلال القبّة الكونية الى عالم الباطن الغني الذي لا يحدّه شيئ إلاّ طموحك وجهدك. إنه عمل بمفاعيل إيجابية وترددية، فخروجك من فلك العمارة لم يكن إلا لحظة لأنك ستعود إليه بحلّة ودينامكية جديدة حيث سيتثنى لك العمل أكثر وأكثر إنّما بصمت وهدوء.
عليك أن تحافظ على سريّتك وأن تتصرّف ما بين اخوتك بتواضع محافظاً على الشفتين مغلقتين غير مسرف بالكلام إنّما مكثر من المثل البناء. عليك أن تترك داخلك يتكلّم بوعي وجدانك، فتكون الأخ الخارجي والأستاذ الداخلي.
بترقيك الى هذا المقام يصبح داخلك هو المحرك الأول وتتلاقى مع القوة الكونية المحركة للعوالم الخارجية. ارتداؤك المئذر يذكّرك بالروابط الأخوية التي لم تنفك مع أخوتك في المحافل الشغّالة. لم تزل في دائرة العمل إنّما عبر مشغلك المؤطِر لعمل اخوتك.
دأبنا وعلى مدى سنين بنحت وتشذيب الحجر لبناء الهيكل، هذا العمل تطلّب منا ترسيم الأشكال كما الصبر والإعادة، كما أنّه يتطلّب ويلزم الأستاذ بمشقّة جسديّة لا يستهان بها للوصول الى إكمال البناء ووضع السقف المحفل.
أمّا الآن وقد بنينا هيكلنا الداخلي، فما هو الهدف من بناء هذا المحفل؟
أولى مقامات العمل الداخلي هو التأمّل. التأمّل يكون بالصمت و هو من علامات العمل الداخلي، لنسمح للقوى الداخلية بالتعبير. العمل في هذا المضمار أصعب قليلاً من العمل بالدرجات الرمزية. إذ أن عملنا على المادة والحجر بالتحديد كان مرئي بالنور الذي حصلنا عليه عند دخولنا المحفل. أمّا اليوم فعملنا في مضمار غير مرئي وهذا يتطلّب منّا الصبر والتأني والتأقلم مع حيثياته الجديدة. أول خطوة في هذه المسيرة ستكون بالتأمل. وهذه كانت أول خطواتك عندما دخلت الماسونية ووضعت في غرفة التأمل لوحدك أمام الشمعة الممثلة لعنصر النار الذي تجلّى لك بعد رفع العصبة ورؤية النجم المتوهج. العصبة التي كانت على عينيك هي اليوم على جبينك باب الوعي الفكري والعقلي. العصبة التي كانت على عينيك حجبت البصر أمّا الوشاح الشفاف على الراس أو العصبة على الجبين فلا تحجب البصر بل البصيرة. كما كان العمل في الدرجات الرمزية مبني على التفرقة ما بين الكسل والعمل اليوم دورك هو التفرقة ما بين النور والظلمات.
التأمّل هو إسكات جميع العوامل الخارجية للإفساح أمام الداخل بالبزوغ. كما أن نحت الحجر يتطلّب منّا أيّام وأيّام من العمل، وتطوّر نبتة يتطلّب أشهر من الإنتظار والصبر كذلك “الناشئة الباطنية” الجديدة تتطلّب منّا وقت وصبر وتأني ومثابرة. إذ أنّك ستتحوّل الى بوتقة ما بين العالمين المنظور والداخلي ومنها الى رجل جديد يُبحر ما بين العوالم بدقّة وثبات. هنا نفهم دور المرآة التي تأخذ معاني جديدة وترينا داخلنا من خلال خارجنا.
التأمّل يكون بأخذ وضعية المبتدئ الجالس بين العامودين ثم بإغلاق الشفتين ووضع جانباً النور الذي استعملناه في الدرجات الرمزية بإغلاق العينين. والجلوس في هذه
الوضعية لفترة تتناغم مع ما يتحسسه داخلنا.
هذا التمرين يجب أن نقوم به بشكل متواتر كل ما سنحت لنا الفرصة ويستحب عند الإنشغال في معترك الحياة أن نخصّص له فترة في النهار تتناسب مع أعمالنا.
إن المثابرة على هذا التمرين التي تعطى أُكُلَهَا بشكل أكيد، هو من واجبات الأستاذ وعليه أن يقوم به بسريّة. إذ أن هذه ليست عبادة ولا طقس من الطقوس إنما تمرين للإتاحة للقوى الداخلية بالعبور من خلال وشاح المادة الى العالم الخارجي المحسوس مرسانا وموطننا الحقيقي. ولا تنسى أنت العارف بأن الفخاخ في هذا المجال كثيرة وهي متمثلة بالسراب والهزيان الذي يقع به الجاهلين. وهذا ما يفرّق ما بين العارفين المستندين الى الرمزية التكريسية من الجاهلين المرتكزين على العملية الكسبية المغشى عليهم بالشعور السحري. الأستاذ يفهم التأمّل من خلال أبيات الحجر الهرمسي الذي يمثّل العارف بالمرآة مابين العالم العلوي والسفلي بتأملاته.
لا يبغى الأستاذ من هذه التمارين الوصول الى سدّة أو سلطة، لأن المادة تفسد في هذه المجالات. العمل بقلب نقي ونظرة متواضعة هو السبيل لتبيان حقيقة قواك الداخلية التي تتعارض وكل مبغي مادي، حثي وسلطوي. أنت على باب مدرسة العلوم العليا التي بها ومنها ستقارب نواميس الطبيعة وأسرار الكون. لقد مرّ قبلك في هذه المشاغل أساتذة ومعلمين وصلوا بجهدهم ومثابرتهم الى سبر أغوار الكون وتبيان نواميس وأسرار الطبيعة. إن المفتاح الذي بين يديك سيساعدك على فهم علم الهندسة لأن العلم يُستحصل عليه بالكسب وليس بالإرث أو الهبة، فسبحان مهندس الكون الأعظم.
التمرين.
يعمل بهذا التمرين بشكل منفرد أم جماعي في آخر الجلسة المحفلية.
اخوتي الأساتذة الرجاء أخذ وضعية المبتدئ بين الصفوف، الجلوس بظهر مستقيم واليدين على الركبتين، إغلاق العينين، إرخاء مفاصل الجسد من ثم التأني بسماع الباطن. نبقى في هذه الوضعية لمدة دقيقتين أو ثلاث. عليك أخي أن تقوم بهذا التمرين بشكل متواتر ويستحسن يومياً بعد الإرتياح من العمل.
– حقوق النشر: الدكتور ميشال الخوري © ٢٠٢١