الغنوصية

الغنوصية

 الغنوصية حركة فكرية ودينية تواجدت خاصة ما بين القرن الثاني والرابع  ميلادي. إعتُبِرت حركة هرطقية من قبل الكنائس آنذاك. ثم إختفت هذه الحركات كليا الى أن ظهر في الحديث جمعيات وحركات تطلق على نفسها إسم غنوصية الذي يعتبر أكثر ما يعتبر نوعاً من الإستعادة الإسمية، أكثر من ما هو التعبير عن إستمرارية تراثية وتقليدية.

الى القريب لم يكن يتوفر الكثير من المراجع التاريخية لدراسة الغنوصية بشكل متعمق. مع إكتشاف مخطوطات نجع حمادي سنة ،1945 وضِعَ بين أيدي الباحثيين مخطوطات ومادة سهّلت الوصول الى فهم أوضح لهذه التيارات.

يظهر في كتابات الباحثيين أشكال متعددة للغنوصية بحسب المراجع المعتمدة. سنعرض هنا ما هو معروف ومتفق عليه وتاريخي دون الدخول في إشكالات الفروقات الغنوصية.

في التعريف.

إعتمد مؤتمر مسّين في سنة 1996 الفرق ما بين الغنوصية كفكر والغنوصية كدين يتعبد من خلاله. وفرق بينهما بتعبير (Gnose) للفكر و(Gnosticisme) للغنوصية كدين.

عند استعمالنا كلمة غنوصية في هذا البحث نعني به الفكر الغنوصي.

الغنوصية ككلمة ومن أصولها اللغوية تعني المعرفة. وهي إمكانية للتحرر من خلال المعرفة. نجد هذا النحو في البوذية كما في بعض مدارس اليوغا. نستطيع ان نزيد على هذا تيارات كتيار الكابال (Kabbale) وكثير من المدارس التكريسية ومنها الأفلاطونية والأفلاطونية المحدثة، من هنا تصبح الغنوصية معرفة الأصل الحقيقي وغاية ومصير النفس.

نجد بعض الفصول من كتب الغنوصية في مخطوطات الكنيسة القديمة أو الأولى، كما نجد بعض نصوصها ولإنتقادها، عند بعض الكتاب القدامى، امثال كليمان الاسكندري (Clément d’Alexandrie) واوريجان (Origène) ودنيس الايروباجيست (Denys l’Aréopagite).

بالرغم من أن عمل ووظيفة الغنوصية هي ذاتها إلا أنَّ مضمونها يختلف من تيار لآخر.

كما أسبقنا، المصدر الأكثر معتبراً تاريخيا يبقى مخطوطات نجع حمادي، لقلة وندرة كتابات الكنائس الغنوصية إذ عمدت الكنائس السائدة آنذاك، الى حرق وطمس كل ما يمت بصلة الى هذه التيارات الدينية.

حفظت مخطوطات نجع حمادي التي أكتشفت في سنة 1945 في متحف القاهرة. قبل هذه وجدت مخطوطات قبطية محفوظة في متاحف لندن، اوكسفورد وبرلين معظمها ترجم من اليونانية.

من مصادر المعرفة الغنوصية كتابات من سمي بأباء الكنيسة اذ كتبوا المطالعات لمحاربتها ويتبين من خلال هذه النصوص كثير من أفكار وديناميكية الغنوصية. لم يكتفِ هؤلاء بنقض الفكر الديني الغنوصي بل سردوا بعض المقاطع لتحليلها ونقضها كما فعل ايرينه (Irénée de Lyon, IIe siècle) وترتوليان (Tertullien) وهيبوليت (Hippolyte de Rome). نجد أيضا بعض النصوص عند أغسطينوس.

لا نستطيع الإرتكان كليا على هذه النصوص دون مقارنتها بالمخطوطات المعتمدة لأن أصحابها سعوا الى نقض هذه الحركات وتكفيرها. إنقرضت الغنوصية كدين منذ القرن الرابع إلاً انَّ بعض التيارات كالمازدية والمانوية أطالت عمر الديانات الغنوصية. بالرغم من إختلافاتها الداخلية إلاً أنَّ مساراتها تتشابه. بقيت الديانات الغنوصية ضمن تفسير خاص لتعاليم المسيحية باضافة أفكار قديمة. من هذه الأفكار القديمة جذور مصرية، بابلية، فارسية، يهودية، هندية، يونانية وأسرار من الحركات القديمة. من هنا نفهم خروج الغنوصية من الجذور مسيحية الخالصة، وتكون قد لبست الأفكار المسيحية لشيوعها في زمن تطور الفكر المسيحي.

أكثر الكتابات الغنوصية غير معرّفة، إذ أنَّ اصحابها خشوا الإضطهاد السائد. ومنهم منادر((Ménandre، ساتورنان (Saturnin)، بازيليد (Basilide) مؤسس المدرسة الإسكندرانية و فالنتين (Valentin)، الذي ركَّز على الإزدواجية أكثر من الثنائية، التى تلتحم بزواج كالذي وصف في العرس الخيميائي عند جمعية وردة الصليب (Rose Croix).

تكّون في الغنوصية مدرستان إحدى غربية مع “هراقليون” و”بتوليمه” مرتكزين على تفسير مقاطع من التوراة وإنجيل يوحنا. ومدرسة شرقية قليلة الشهرة ممثلة ب”تيودوت” و “مرقس”.

من العقائد الغنوصية.

سعى الغنوصيون في تفسير كتاب التكوين وبخاصة الفصول الأربعة الاولى. هناك عدة تفاسير لقصة الخلق من الفيض الى التبلور. وعلى هذه القصص طرح الغنوصيون أسئلة ومنها:

  • من كنا؟ والى اين وصلنا؟
  • اين كنا؟ واين وضعنا؟
  • الى أي هدف نتسابق؟ من اين نجد العتق؟
  • ماهية التطور؟ وإعادة الانبثاق؟

إرتُكِنَ في تفسير الأسئلة الوجدانية، على كتابات مسيحية أولية، غير معترف بها من الكنائس كإنجيل يوحنا المسمى إنجيل يوحنا المنحول. الذي يمثل الألوهية قائمة منذ البدء الذي لا بدء له ومنه خلق كل شئ بالتفاضل، وآخر المخلوقات الحكيمة التى كانت همزة الوصل ما بين ما هو فوق وما هو أدنى. فالإنسان وضع في درجة أدنى من خالقه وجمعت الحكمة ما بينهم. يتمثل الإنسان بثنائية أو إزدواجية تتوق بالحكمة الى الوحدة المتمثلة بخالقه أي مصدره الاول. ولمعرفة هذه الحكمة يلزم كرم رباني يتمثل بالوحي الالهي. ما بين هاذين القطبين درجات تتعدد وتختلف.

حاصلته، أن الإنسان مادة وروح، مادته من طرف لا يتجانس مع طرفه الآخر، الذي يجب الوصول اليه. فيكون الإنسان في غربة في العالم المادي المحض. فالخلاص ليس بالألم إذ أنَّ الألم هو من نتائج الإندماج المادي.

فيتكون عند الغنوصي نظرة سلبية للإنخراط المادي والذي يضع ضمن أهدافه التخلص من هذا الثقل. يصبح الرسول عندها وبحسب الغنوصي حبل خلاص داخلي متحرر من الشكل المادي أو المتجسد. وهذا الطريق علّمه “المسيح” لخاصته، الذي توارثته مدارسهم فيما بينها، وهي غير محصورة بالإثني عشر تلميذ. فمن هنا يرفضون فكرة الإكليروس الحامي حمى المسيحية، ويعتبرون المسيح أسمى وأرقى وأعلى من أن يمثل بأشخاص، بل هو قادر على أن يمثِّل نفسه من دون وسيط دوني متكون من مادة لا تختلف عن مادتهم.

تطور فكر الغنوصية بأشكال عديدة حتى إلتقى مع الفكر الهندي اليوغي والفلسفي العتقي، الذي يعتبر أن الإنسان بقادر على أن يرتقي بتفاعله الداخلي، وبتأملاته وتجاربه ومشاركته الآخرين إنفعالاته الإيجابية. عندها يصبح  عندهم “الخلاص” ليس قضية بيع وشراء، ومنحة مجانية ومكسب يعطيه ويمنحه بشر، بل مكسب ذاتي يتمكن منه الإنسان بالعمل على الذات. ولما لا!  بمساعدة ووساطة الحكمة، التي مثَّلها الأوائل بالمسيح المتجرد من تابعته الأرضية. ومن قال أرضية قال مادية ولا تخلو المادية من فساد.   

من أخذ الفكر الغنوصي بمقارع للكنائس القائمة، أخطأ.

ومن أخذ الغنوصية كحرابة للفكر المسيحي، اخطأ.

ومن اخذ الغنوصية كدين صرف حجّم رأيه في القرنين الأولين للمسيحية، أخطا.

الغنوصية نزعة بشرية تؤمن بأحقية الفكر والحكمة في تسيير أمورها. إنما بدرجات تختلف من فرد الى آخر. لو أحصينا التيارات الفكرية و الدينية والفلسفية القديمة و الحديثة لوجدنا أنَّ كل من إعتمد على فكره ومنطقه وارادته في التفتيش عن سبيله، إتصف بصفة من الغنوصية. الإرث القديم للغنوصية وعدم معرفة تطورها تحجّم دورها ودينامكيتها في المجتمع.

عندما نأخذ تيارات الفكر الحديث من إجتماعية وإقتصادية وسياسية، فهي بإرتكانها على الفكر والحكمة من دون الوحي في تطوير مجتمعها، تدخل في شعبة من شعب الفكر الغنوصي.  

العنوصية كفكر (Gnose) بحاجة الى دراسة وتستحق تعمقاً أكثر في ديناميكيتها المؤثرة في مجتمعاتنا المعاصرة. فهي ركيزة لأكثر فلسفات الطرق الحديثة المسماة العهد الجديد (New age).

 – حقوق النشر: الدكتور ميشال الخوري  © ٢٠٢١

error: Content is protected !!