الفرامانات
الفرامانات هي المراسيم التي تُصدِرها الكنيسة الكاثوليكية لمعالجة المواضيع
الطارئة من الجهّة التنظيمية، التعيينات الأسقفية، الإعفاءات الكنسية، الحرمانات الكنسية، الدستور الرسولي، وإعلانات القداسة والدعوات. يفرّق ما بين الفرامانات الكبرى والصغرى ومابينهما. الكبرى هي في ما يخصّ العقيدة والايمانيات وهي التي تهّمنا في دراستنا هذه.
في عام 1870 وتحت وصاية بيوس التاسع في المجمع الفاتيكان المسكوني الأول، اعتمدت عقيدة عصمة البابا في الأمور العادية والغير عادية عندما يصرّح ex cathedra.
فيما يتعلّق بالتعاليم الصادرة عن البابا، كتب ليون الثالث عشر في فرمانه الصادر في (Immortale Dei 1885): “من الضروري التقيّد بإلتزام لا يتزعزع بكلّ ما يعلّمه الحبر الروماني وبكلّ ما علّمانه (الأحبار في السابق) “.
في اللاّهوت الكاثوليكي ، يشير التعبير اللاتيني ex cathedra ، بالمعنى الحرفي للكلمة “من المنبر” ، “المنبر” ليس حرفياً منبر، لكنّه يشير بشكل رمزي إلى وضع البابا كمعلّم رسمي للعقيدة الكاثوليكية. حالما يصرّح بشخصه كأسقف روما، يدخل هذا، ما صدر عنه في صلب العقيدة ويكون صحيحاً وهو في ذلك معصوم. هنا لم يعد للمجامع ومراكز الدراسات إلّا الإشارة الى ما وصلوا اليه إنّما الكلمة الفصل تعود له هو”الحبر الأعظم”، لم تحدّد العقيدة موافقة أكثرية الأساقفة أو الأخذ برأيهم والقرار يكون عندهم شورى وبإسم المجموعة بل حصرتها به هو. في الواقع هو يأخذ برأيهم إنّما القانون لا يلزمه وتكلّم عن البابا حصرياً بتصريحه ex cathedra.
تلزم هذه العقيدة بكلّ ما صدر عن الأساقفة السابقين.
كيف تعاملت الكنيسة مع الفرامانات؟
مع مرور الزمن وبسبب أخذ قرارات محدودة جغرافياً وزمنياً وبتجاوزها مع الزمان، عمدت الكنيسة الى الإغفال عنها ونسيانها.هذا يناقض أحقيّة وصحة العصمة للأحبار السابقين
جميع الفرامانات المذكورة في هذا الموقع مأخوذة عن موقع الفاتيكان الرسمي: http://www.vatican.va/archive/
إلّا أنّه وللأسف، بالرغم من كثرة الجامعات وبخاصة في لبنان التي تتجاوز الستين جامعة وأغلبها ذات إدارة دينية، وتمتلك أغلبها كليّات للترجمة، كما يَنْعَت البعض نفسه بجامعات روحية وقدسية، لا يتواجد على موقع الفاتيكان إلّا بعض الأخبار الحديثة من مواعيد زيارات البابا وغيره بالعربية. ليجد الباحث الفرامانات بجميع اللّغات بما فيها الصينية والعبرية ولن يجده بالعربية. فلذلك إعتمدنا في الموقع هذا النسخ الإنجليزية والفرنسية.
سنسطّر بعض الفرامانات التي تتعلّق بالمفكّرين الأحرار. لا ندّعي إحاطة جميع جوانب الموضوع ضمن رسالة واحدة، إلّا أنّها كما سابقاتها تساعد الباحث على وضع الأسس لدراسته.
القاعدة الأساسية في التعامل مع المفكّرين الأحرار كانت على قاعدة الأمبراطور تراجان التي استعملها ضدّ المسيحيّن الأوائل وتنصّ على ما يلي: “عندما يجتمع البعض من الرجال الأذكياء (الفطينين) بسريّة، حتى ولو كان ذلك للقتال ضدّ حريق، إن إجتماعهم بذاته هو خطر أكبر بكثير من الحريق، ولو أدّى الى تدمير ليس فقط بعض المنازل بل المدينة بأكملها”. هذه القاعدة الدكتاتورية هي التي كانت سائدة في القرون السابقة.
- في مجمع روان (concile de Rouen) 1189 حُرِم العمال الأحرار الذين يعملون لحسابهم فقط لعلّة عملهم لحسابهم.
- نقرأ في خلاصات مجمع افنيون 1326: “في بعض الكانتونات في مناطقنا، هناك أناس، معظمهم من النبلاء وفي بعض الأحيان عامة، ينظّمون نقابات وتجمّعات محظورة … يجتمعون …، في مكان ما لعقد إجتماعاتهم (مقابلات، محادثات سرية) ….. وبعد إرتداء لباس موحّد، ويستعملون علامات وإشارات مميّزة وينتخبون واحد منهم رئيساً لهم”.
- في 6 آذار من سنة 1642 أصدر البابا أوربان الثامن حرم ضد الجنسينيسم سمي ب” In eminenti “.
- في أيلول من سنة 1713 جدّد كليمان الحادي عشر الحرم ضدّ الجانسينيسم وأفكارهم المتحرّرة في الفرمان ” Unigenitus “.
- في سنة 1720 اعتُبِرَ الماسون، رجالات من رجالات الدّين المسحيين “اليسوعيّن” المتستّرين بلباس الماسونية، مرتكزين على شخصية رامسي Ramsey.
- صدر في 15-4-1738 أوّل فرمان يدين مباشرة الماسون من البابا كليمان الثاني عشر تحت مسمّى” In Eminenti “. استعملت نفس الأدبيات التي استعملت مع الجانسنيسم وحتى المسمّى، لأن الإثنين اتّهما بالترويج لحريّة الإختيار والتفكير. وجاء فيه: “…حيث أن رجال من كلّ دين وطائفة ، يؤثرون مظهر الصدق الطبيعي، يلتزمون ببعضهم البعض من خلال إتفاق ضيق لا يمكن إختراقه، ولكن وعلى هذا النحو تتبيّن طبيعة الجريمة التي يخونون نفسهم بها وقد أوجدت الإتهامات المذكورة آنفاً الشكوك القوية في عقول المؤمنين، إن المنتسبين الى هذه المجتمعات يعتبرون أنفسهم وبالطبيعة أشخاص ذوات استقامة…. لأنهم لو لم تكن إجتماعاتهم لِخَلق ضرر لما كانوا يكرهون النور ويجتمعون بسريّة. وقد نمت هذه الشكوك لدرجة أن هذه الجمعيات حرّمت في العديد من الدول ولقد تمّ حظرها منذ فترة طويلة على أنّها مخالفة لسلامة الممالك…. يشتبه بأنهم قريبون من البدعة… ولأسباب أخرى معروفة منّا…”
أصل التهمة يعود الى:
- رجال من كل دين وطائفة.
- مظهر الصدق الطبيعي.
- إتفاق ضيق لا يمكن إختراقه.
- إثارة الشكوك القوية في عقول المؤمنين.
- يعتبرون أنفسهم وبالطبيعة أشخاص ذوات إستقامة.
- ويجتمعون بسريّة.
- مخالفة لسلامة الممالك.
هذه هي التّهم الرئيسية التي اتّهم على أساسها الماسون. إلاّ أنّ الفرمان لم يتّهمهم بالهرطقة ولا بالحرم ولا بالتآمر على الكنيسة، الإتهامات لم تكن عقائدية بل بشبهة مَن اتُّهِم من قبلهم بالتحرّر من قيد السلطات الملكية المدعومة من الكنيسة، على غِرار ما دعى اليه الجانسينيسم. خشية السلطات المدنيّة كما ذكر آنفا من خطر استفاقت الحركات العمالية التي شكّلت تهديد مباشر لكيانها.
كان عمر البابا عند صدور هذا الفرمان 87 سنة وكان قد فقد بصره. يقال بأن الكاردينال كورسيني هو من قام بمسك يده للتوقيع على الفرمان. إلّا أنّ النسخة الأصلية لا تحمل توقيع البابا بل توقيع “Fugenius” بحسب ” Bullarum Romanum “.
ما يضيف على الشكوك السياسية التي أحاطت بهذا الفرمان:
1- لم تكتب بعد مجمع أو إجتماع للأساقفة.
2- من وقّع عليها غير مسؤولين في روما. كما ورد في “بوللاروم رومانوم” ” Bullarum Romanum “.
3- والموقّع على النسخة الأساسية هو فوجانيوس.
4- كان يجب أن يوقّعها في حال تعذّر البابا ال(camerlingue) المستشار والمتحدّث بإسم البابا إبن أخ الكردينال كورسيني.
5- كان البابا أعمى وبعمر 87 سنة، سنة قبل وفاته.
كلّ هذا يلقي من الشكوك على مصداقية النيّة ويرخي ظلاله على أن السلطات الإقطاعية والدينية دفعت في إتّخاذ هذا القرار كما حصل مع الكاربوناري (Carbonari).
لم تنكر الكنيسة هذا الفرمان لأنّه نسب إليها، كما أنّ الماسون لم ينكروه لأنه وبالرغم من الظروف المحيطة به إعتمد من الكنيسة فيما بعد لأنها لا تستطيع ان تُناقض نفسها.
كيف تعاملت الكنيسة مع هذا الواقع؟
حاول من تبع كليمان أن يغطّي على هذه الفعلة، فأدخلتهم في أغلاط كثيرة علقت في شباك التفسير والتعليل، لعدم وجود قواعد حقيقية عقائدية لإدانة الماسونية. اضطر “بنوا الرابع عشر” أمام ما أُثير حول هذا الفرمان من شكوك وإنتقادات، أن يغطّي ما فعل سابقه بإصدار فرمان سمي “Providas” إلّا أنّه لم يأتِ بجديد وبقي في الشكوك والظنون.
على ماذا ارتكزت البروفيداس:
- في هذه الجمعيات يمكن أن يجتمع الرجال من أي دين وأي طائفة. تخيّلوا الضرر الذي يمكن أن يسبّبه ذلك لنقاء المجتمع الكاثوليكي.
- الوعد الملزم الذي لا يمكن المساس به للحفاظ على السرية، والذي وبإسمه يخفون ما يجري في هذه الجمعيات.
- لا نعرف من وراء هذه السريّة إن لم يكونوا يتآمرون على الدين والدولة.
- هذه الجمعيات تعمل خارج رضاء السلطات المدنية.
- في كثير من البلدان وقفت السطات المدنية في وجه هذه الجمعيات.
- العلّة الأخيرة هي أن الرجال الحكماء والصادقين يلومون هذه الجمعيات على أنها قد تحمل الخبث والإنحراف.
عند التدقيق في الفرامانين السابقين، نجد أن هناك شكوك ولوم أكثر ممّا هي إدانات عقائدية. وقد حكم على الجماعات المخالفة أيّاً كانت من بروتستانتية، كاثارية، ارثوذكسية، جامعية، فلسفية بالحرم والهرطقة، إتّهام لا نجده في طيّات هذين الفرامانين للماسون. وفي سنة 1776 ظهر خطر أكبر على السلطات القائمة تمثّل بأفكار التنوير فكانت ضدّهم الفرمان انسكروتابلي “Inscrutabili” على يدّ البابا بيوس السادس ولم يلحظ في فرمانه الماسون بالرغم من أن التنويريين حملوا أفكار الماسون من فصل الدين عن الدولة، إعلاء وإعتماد الديمقراطية، الحرية الفردية، حرية الصحافة الخ…
في 22 حزيران من سنة 1622 كان قد أصدر البابا غريغوار الخامس عشر فرمان يحمل الإسم ذاته ” Inscrutabili divinae providentiae ” كالذي صدر ضدّ أفكار التنوير، الذي يعني ما له علاقة بالايمان. وكان قد أسّس بذلك غريغوار الخامس عشر “المجمع لنشر الايمان” الذي أصبح اليوم مع بولس السادس في سنة 1967 ” المجمع لتبشير الشعوب”. هذا التغيير في سنة 1967 كان للحدّ من تدخّل الكنيسة على مثال ما حصل مع محاكم التفتيش.
الخوف من الأفكار العلمية والتنويرية جعلت الكنيسة تصدر عدّة تحذيرات وفرمانات ومنها:
المونسنيور أفر”Affre” في 1820 أسقف باريس، أصدر ضدّ العلماء وهدّد بأن يحرم أيّ شخص لا يزال يجرؤ على القول بأنّ عمر الأرض أكثر من 6820 سنة. تعلم الكتب الدينية أن آدم قد ولد قبل 4000 سنة من المسيح، وأن الأرض قد تشكّلت قبل ذلك بألف سنة من آدم. ولذلك فإنّ جميع القائلين بخلاف هذا هم أعداء الدين.
-في سنة 1826 اصدر ليون الثاني عشر تحذير وتهديد للبدع المسمّات “جامعات” لما يتداول فيها من أفكار وعلوم لا تستطيع السلطات الدينية كبتها ولجمها.
-عاتب البابا بيوس التاسع الأسقف داربوى (Darboy)، لأنه صلّى على نعش الجنرال مانيان (Magnan) وكان الأستاذ الأعظم للشرق في فرنسا، بالرغم من وجود رموز ماسونية على نعشه.
يجب التوقّف عند البابا بيوس التاسع هذا الذي عاتب داربوي!
البابا بيوس التاسع (1792 – 1878) ولد بإسم جيوفاني ماريا ماستاي – فيريتي. تعدّ فترة حكمه الأطول في تاريخ الكنيسة، حيث خدم من 16 يونيو/ حزيران 1846 حتى وفاته، وهي فترة ما يقرب من 32 عاماً. خلال تولّيه البابوية دعا المجمع الفاتيكاني الأوّل في عام 1869 والذي أصدر مرسوم العصمة البابوية. حدّد البابا عقيدة الحمل بمريم العذراء بلا دنس، التي كان قد تكلّم عنها إنجيل يعقوب قبل 1700 سنة والذي اعتبرته الكنيسة منحول!
كما ذكرنا نعرف أن إسمه بالمعمودية هو جيوفاني فيريتي ماستاي (Giovanni Ferreti Mastaï). كرّس في 15 أغسطس 1809 في محفل إيتيرنا كاتينا (Eterna Catena) في شرق نابولي. وبينما كان مندوبًا رسوليًا في أوروجواي، كان يتردّد على المحافل بانتظام.
عندما اختير حبر أعظم، تحوّل كلياً وتصرّف بحسب ما كانت عليه العلاقة ما بين الإقطاع والسلطات الدينية متنكراً لما كانت تقدّمه الماسونية من مساواة بين الطبقات والشعوب. ففي عام 1866، قام بالتوقيع على تعليمات المكتب المقدّس التي تبرّر العبودية وذلك تحت ضغط السلطة الإقطاعية، الضغط لا يبرّر التنكّر، أصدر: “العبودية في حدّ ذاتها وفي طبيعتها الأساسية لا تتناقض على الإطلاق مع الحقوق الطبيعية والإلهية، وقد تكون هناك عدّة أسباب للعبودية وهذا ما بيّنها اللاهوتيين المعتمدين … لا يوجد تعارض مع الحق الطبيعي والإلهي للعبد سواء تم بيعه أو شرائه أو تداوله أو منحه”. هل هذا يدخل للتأبيد لأنه خرج من معصوم!
عارض الماسون هكذا قرارات مِن مَن كان ينتمي الى محافلهم، فما كان من بيوس التاسع وللدفاع عن نفسه إلاّ البدء بالهجوم وهو أفضل الدفاعات، فقال إنّه يحتدم ويطلب إبادة هذه الطائفة (الماسون) التي تتنفّس الجريمة وتهاجم الأشياء المقدسة، هنا الهلع لم يكن من الماسون بل كان من الكربوناري (Carbonari) الذين كانوا في صراع مع الإقطاع وكانوا يشبهون الماسون بتجمّعهم وأعمالهم.
بطلب من ملك إيطاليا فيكتور عمانوئيل وبصفته كبير أساتذة الماسونية الإيطالية حُكِم على الأخ ماستاي بانتهاكه المتكرّر لقسمه وتمّ طرده من الماسونية.
صورة نادرة للبابا بيوس التاسع متكئاً على يدّ الملك فيكتور ايمانويل كبير أساتذة الماسون في ايطاليا.
في إصداره الرسولي (ٍSyllabus)، أدان بيوس التاسع العقلانية، حريّة التعبير وحرية إختيار الدين، ثلاثة قواعد تتمسّك بهم الماسونية كأساسات للمجتمع الحرّ. مع العلم أنّ ما يصدر عن البابا هو للتأبيد بعد المجمع الفاتيكاني الأول. بما معناه هذه الإدانات ما تزال بحسب المجمع الفاتيكاني الأول للتأبيد. رفع يوحنا بولس الثاني في سنة 2000 البابا بيوس التاسع لمرتبة القداسة.
كما كنّا قد رأينا في تاريخ الجمعيات، الذي بيّن بأنّ حركة التحرّر لم تكن محصورة بالغرب بل إستفاق في جميع أرجاء المعمورة لأن التّوق الى الحريّة هو من أساسات الإنسانية السويّة. كان الكاربوناري الأساس الذي نشأت عليه في ايطاليا (Giovine Italia) ايطاليا الفتاة، وعلى مثاله في تركيا “تركيا الفتاة” 1899 وقبلها التنظيمات 1839 ومن بعدها في ايران المشروطة سنة 1905.
الإتهامات نفسها التي أطلقت في أوروبا على الماسونية بهدم السلطات القائمة لمخالفتها الإقطاع والسلطات الدينية الحاكمة مدنياً. أطلقت من بعض المسلمين السذّج بالتلوّن والتشبّه بأعمال الغرب، متّهمين الماسونية بهدم الخلافة الإسلامية على يدّ أتاتورك. ولم يأخذ هؤلاء النقلة السذّج بالتدقيق بالتاريخ ومعرفة أن أتاتورك لم يكن ماسونياً بالرغم من إحاطته بكثير من الماسون وقد منع أتاتورك الماسونية في تركيا في فترة حكمه! أمّا السلاطين العثمانيين فقد حموا الماسونية وانتسب الكثير منهم الى محافلها، هذا ما سنراه في الدراسة التي تتحدّث عن تركيا والعثمانيين والإسلام.
-في الرابع من نيسان من سنة 1884 أصدر ليون الثالث عشر الفرمان (Humanum genus) الذي لم يعد يدين فيه الماسونية بما دينت به سابقاً بـ “أن اميننتي” لأنّها لم تعد لوحدها تطالب بما اتُهمت به سابقاً. أصبح الفكر الماسوني كما رأينا سابقاً متغلغلاً في الفكر الجامعي وعند الفلاسفة وحتى عند العامة. أدان البابا ليون: الماسونية لأنها تعتمد على الفلسفة النسبية والوضعية والعقلانية، وهو ما يعتمده أغلب سكان المعمورة في أيامنا هذه.
سقطت كل إتّهامات الماسونية:
– ببناء كنيسة.
– بشبهة الهرطقة الدينية.
– بالتآمر على هدم السلطات القائمة.
– بالعمل بسرية وبالخفاء.
– ببثّ القلق في نفوس المؤمنين.
كلّ ما أقدمت “ان اميننتي” على إتهام الماسون به سقط.
أضاف البابا ليون الى الإتهامات النسبية والعقلانية:” الخطأ الكبير في الوقت الحاضر … هو وضع جميع الديانات على قدم المساواة. هذا المبدأ وحده يكفي لإفساد جميع الأديان ولا سيّما الدّين الكاثوليكي، لأنّه الدين الوحيد الحقيقي، والذي لا يستطيع هكذا أن يعاني أكبر الإهانات والظلم وأن يتحمّل أن تكون الأديان الأخرى مساوية له…”. “… دعونا نقرأ بوضوح الخطأ الديمقراطي: الرجال جميعهم متساوون في القانون ومن جميع النواحي. أمّا بالنسبة لبطرس المعلم أن المسيحيين يجب أن يخضعوا و في سبيل الله لكلّ مخلوق بشري وضعه الله فوقهم…”.”… يتبين لنا أنّ الماسون يعملون بخلاف سياسة الكنيسة فلذلك هم يشكّلون خطراً عليها ويمنع الإنتساب الى جمعيتهم…”. في هذه الرسالة صدر أمر بمنع الإنتساب الى الماسونية. لم تكن الماسونية وحدها في المرصاد فجميع الفلاسفة التنويريين كما الجامعات ومراكز الأبحاث وقعت تحت هذه التهمة…
-صدر وفي نفس الموضوع في شهر آب من سنة 1832 على لسان غريغوار السادس عشر ميراري فوس (Mirari vos). التي أدانت الإهمال الديني من الشعب كما النزعة التحرّرية.
- إدانة كلّ من تكلّم عن تجديد في الكنيسة لأنّ هذا يكون إعتراف بأنّها إبتعدت عن هدفها الأساسي.
- إدانة الأفكار الدّاعية الى حرية الضمير.
- إدانة الصحافة التي تحت غطاء الحرية تقدّم أفكار تتعارض وما تعلّمه الكنيسة من واجب الخضوع والخنوع للسلطات القائمة.
- إدانة كلّ من يطالب بفصل الكنيسة عن السياسة والدولة.
هذا الفرامان لم يَطَلْ الماسون فقط بل كلّ من يتعاطى الديمقراطية في أيّامنا أو يدعو الى حريّة الفكر والصحافة. إن قال قائلٌ أنّ هذه سقطت مع الوقت (علينا أن لا ننسى أنّ فرامانات الكنيسة للتأبيد بخاصة إذا صدرت ” ex cathedra ” وهذا هو حال جميع ما ذكرناه الى الآن) وهي أساس التهمة الموجّهة للماسون، لماذا من بين جميع من سبق لا تزال الحرابة على الماسون والمفكّرين الأحرار؟ أم أنّهم كبش يستعمل كما استعمل السيف بوجه سقراط وبيتاغورس وجوردانو برونو وغيرهم…. لترويض العامة!
ماذا قدّمت الماسونية بوجه البعض من هذه الإتّهامات، على سبيل المثال لا الحصر دمغ الماسون الدستور الفرنسي والأميركي وهذا بعض ما أُدخل على الدستور السويسري لسنة 1848 : تقليص ساعات العمل، منع عمالة الأطفال، التوسّع في التعليم المجاني للجميع، مشاركة العمال في أرباح المعامل، الخ…
وأمام كلّ هذه المَعْمَعة الموجودة اضطرت الكنيسة الى تجديد إثارة الموضوع. لأنه لو كانت الأمور واضحة لما إحتاج الموضوع الى عشرات الإصدارات والتوضيحات.
لم يعدْ يُقبَل في بداية القرن العشرين معارضة القوانين الوضعية ولا محاربة النسبية ولا لعن الجامعات ولا تكفير الارثوذكس والبروتستنت وغيرهم الخ… لم يبقَ ككبش محرقة إلّا الماسون الذين اعتبرتهم الكنيسة السبب في تحويل فكر العامة وبثّ الأفكار التحرّرية والنسبية التي أدّت الى سقوط المنظومة التي حكمت العالم الغربي لأكثر من سبعة عشر قرناً.
نظراً لأن الإدانة من الأساس لم تكن واضحة وغير مبنيّة على إتّهامات قاطعة ودامغة. احتجّ من احتجّ بأنّه يجب توضيح الموقف بشكل لا لَبس فيه لأنّه يشكّل إحراج لرجال الأكليروس عند السؤال عن الموضوع. عندها وليس بفرمان أو مجمع بل بشكل ملتبس أدخل بيوس الخامس عشر في سنة 1915 في التعليم المسيحي البند 2335 الذي نصّ على:”…يُحرَم كلّ من يشارك في جمعية ماسونية أو سريّة وينخرط بتآمر على الكنيسة الكاثوليكية أو على سلطاتها المدنية…”، هذه أول مرّة تستعمل كلمة حرم إنّما ليس ضدّ الماسونية بل من يكون جزء من الماسونية أو جمعية سريّة وينخرط بمؤامرة ضدّ الكنيسة. بما معناه كلّ من لا يتآمر هو خارج هذا البند، وهذا ما قرأه الماسون ولم يصرّح عنه رجال الأكليروس وكانت الردود دائماً ملتبسة ومموّهة وبقيت على هذه الحال لأكثر من سبعين سنة.
بناءً على هذا المفهوم قام الأب ميشال ريكي (Michel Riquet) اليسوعي، بإقامة محاضرة في محفل فولني (Volney) في 18-3-1961، تعبيراً عن الفهم الصحيح للبند 2335 من التعليم المسيحي.
وفي 11-9-1974 أعلن الكاردينال سمبر (Seper) عن ” La Sacrée Congrégation de la doctrine de la foi” بعد 69 سنة من إدراج البند 2335 بأنّ المقصود منه هو “…الذين يتآمرون على الكنيسة فقط…” وبأنّه يسمح لرجال الدين بالدخول بمحافل ماسونية أو أخرى بعد أخذ الإذن من أسقف المحلّة.
في 23 كانون الثاني من سنة 1983 أبدل البند 2335 بالبند 1734 الذي لم يعد يتكلّم إلاّ عن “…الجمعيات التي تتآمر على الكنيسة…” وليس عن الماسون والجمعيات السرية. وفي البند 1184 الذي يحدّد من يُحرَم من الواجبات المسيحية لم يُذكَر الماسون.
ذهب البند 1374 من القانون الكاثوليكي الى أبعد من ذلك مع غير الماسون ممّن يتآمر فعلاً على الكنيسة الى أنّه يجب معاقبتهم بما يتناسب ولكن بعدل …
هذه نبذة عن 300 سنة من الأخذ والردّ والتي انتهت بإعطاء أصحاب الفكر الحرّ حقّهم والإعتراف ولو ضمناً وعن مَضد بالحريّات الشخصية، بقبول أصحاب الديانات الأخرى، بالديمقراطية، بحريّة الصحافة الخ… ولم يعد أحداً يتجرّأ بأيّامنا بالوقوف في وجه هذه الحقائق ولو كان هذا بدافع ديني.
السؤال هو: كلّ ما صدر ex cathedra بهذا الصددّ! أين هو اليوم؟ وما هو الردّ عليه؟ وهل يبقى تحت العصمة؟ وإلا كيف يفسَّر؟ هل تتغيّر القيم مع الزمان والمكان؟ كما يقول المفكّرين الأحرار! لسنا بحاجة للردّ على هذه الأسئلة، بل نضعها في عُهدة القارئ…..
في الحديث وأمام هذه الحقائق اضطر بعض الأساقفة الى رمي أحكام عشوائية، المفكّرين الأحرار لا يأخذون بها ولا يردّون عليها لأنّها محدودة بالزمان وبالشخص.
أمّا إذا صدر عن البابا فرمان ex cathedra، أو أدرج في التعليم المسيحي الوحيد الذي يعبّر عن حقيقة الرأي الكنسي، عندها يطرح الموضوع، إمّا مقال في هذه الصحيفة أو موعظة من هناك يبقوا في محدودية بشكل، لا يأخذ بهم الباحث الحقيقي والحرّ.
وقعت الكنيسة في تناقضات في أول عهدها كما في بعض العصور، لتجرؤ أساقفة على حرم هذا والتفرّد بالردّ على ذاك. مهما كان رأي أي أسقف أو كاهن أو أي مسمّى، لا أحد يعبّر عن رأي الكنيسة الحقيقي إلاّ الحبر الأعظم والتعليم المسيحي الصادر عنه. هناك تراتبية في أحكام الكنيسة. عندما يحذف من التعليم المسيحي شيء لا يحقّ لأحد بالرجوع الى الوراء وإلّا كان خارج الهيكلية! ويَحْنث بإلتزاماته!
في أول آب من سنة 1975 اتفقت خمسة وثلاثون دولة حول مقررات هلسنكي، وكان الفاتيكان من صلب المناقشين والموقّعين.
ومن هذه القرارات ما سميّ العشرية “Décalogue ” بالإضافة الى قرارات بإحترام حدود البلدان وعدم التدخّل في شؤون الآخرين، نصّت الفقرة السابعة على: “إحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية” (ما طالب به الماسون والمفكّرين الأحرار لقرون واضطهدوا من اجله). والثامنة على: “المساواة بين الشعوب وحقّهم بالقيام بشؤونهم بأنفسهم” (وأيضاً هذا البند ينصّ على المساواة ونبذ العبودية والإعتماد على النفس بالقيام بالأمور اليومية وعدم الإعتماد على الغيبيات). وكان من نتائج هذه الإتفاقية نشوء جمعية حقوق الإنسان ” Human Rights Watch”.
وافق الفاتيكان على إحترام الحريّات الشخصية والمساواة وغيرها والتزم بها بمعاهدة دولية.
هل يحقّ لأسقف، أو كاهن أو أيّ شخص مهما ادّعى أن يتجرأ ويعارض هذه الحقائق! التاريخ علّمنا أنه هناك دائماً نِعاج شاردة، حمى الله الفكرين الأحرار من شَرَدِها…
النور لا يُحْجَب مهما كانت الجدران غليظة…
– حقوق النشر: الدكتور ميشال الخوري © ٢٠٢١