الفكر الحرّ في المحافل اللبنانية.
لفهم نشأة الماسونية، على الباحث أن يقرأ الدراسة التي تفصّل تكوين المجتمع في التاريخ الماقبل الحديث وظروف نشأة الجمعيات، كما وردت في “المجتمع في القرون الوسطى” في القسم الذي يبحث في تاريخ المسيحية وفي هذا القسم.
نفصّل بالماسونية شقّين. الشقّ الإجتماعي المتمثّل بإقامة جمعيّة تعاضديّة وأخوية. والشقّ الثاني يتكوّن من نشأة الفكر الحرّ الذي امتدّ على إمتداد التاريخ، والذي لم يكن يوماً محتكراً من جمعية أو من فئة أو من شعب. ثمّ دخول الفكر الحرّ الى محافل الحرفيين، لتصل الماسونية الى ما وصلت إليه بعد سنة 1717 تاريخ إتّحاد بعض المحافل، لإقامة تجمّع تعاوني عُرف بالمحفل الأكبر، إنشاء بعدها تجمّعات أخرى سمّيت بشروق ومحافل كبرى وأصبح تعدادها بالعشرات.
دخول الفكر الحرّ الى المحافل يُختَلَف عليه من جهّة التأريخ، أيّأ يكن إن كان قد حصل في القرن الثامن عشر أو السابع عشر، أو قبل ذلك كما يتبيّن من بعض الدراسات التاريخية، يبقى تفصيل في المفهوم الأساسي ويتحوّل الى مسألة دراسات تاريخية. ما هو مهمّ هو أنّه وفي التاريخ الحديث، عمل المحافل يقتصر على العمل الفكري والفلسفي لمن لم يزل يتعاطاه. إذ أنّ عدد كبير من المحافل، لم يعد عندها المقدرة الفكرية والعلمية والفلسفية للتفوّق على مراكز الدراسات والأبحاث، فانقلبت الى تجمّع إجتماعي وفي القليل من الأحيان تتناول في أعمالها بعض من أخبار العلم والتاريخ الخ…
تحوّلت المحافل الى أندية في أكثر الأحيان لقلّة حيلتها الفكرية والفلسفية. هذه الحالة تدفع الباحثين عن الفكر الماسوني والذين فتّشوا عنه طويلاً وبالإضافة الى ملاقاتهم الفشل المتفشّي، يجعلهم يتحوّلون الى الأندية الإجتماعية الخيرية، وذلك إن كان لإمكانات هذه الأندية المادية أو لعلاقاتها الإجتماعية التي تغري وتُبهر الباحث عن فخامات وزعامات إجتماعية.
هذا الواقع نجده في الإحصائيات، ففي لبنان كان قد أُحصِى أكثر من 23.000 ممّن قارب الماسونية في السنوات الأخيرة. أمّا العدد المتبقّي فعلياً في سنة 2020 لا يتعدّى بضع المئات.
التباين بين ما هو مرجو ومطلوب والمتوقّع هو من أسباب هذه الأرقام الإحصائية. هنا نعي قول الأخ “كازانوفا” المعروف: “هناك من يدخل الماسونية ويصل الى درجة أستاذ ويبقى خمسون سنة في الماسونية ولا يفقه السرّ الماسوني”.
هذا ما دفع ببعض التكتّلات وأمام عقمها الفلسفي وللتغطية عليه، بالسعي لإقامة صداقات مع محافل أجنبية، معتقدة بذلك إضفاء شرعية على تجمّعها. فللأسف كلّ مجموعة تخفق في إظهار فلسفة الفكر الحرّ، تتقوقع حول ما تعتقده شرعية بإتصالها بتكتّل أجنبي أيّا كان، ويصبح بالنسبة لها هذا، مع ما يقتصر على بعض الزيارات هو الشرعية الإجتماعية والواعدة للأفراد بأبواب صداقات خارجية. هذا ما حوّل كثير من المحافل في لبنان الى نوادي أخوية لا أكثر، الذي أدّى الى النفور العددي الملحوظ إحصائياً سابقاً. فليجدنّ الباحث محافل إنجليزية وفرنسية وأميركية وطليانية وكندية وللأسف كلٍ لا يعترف بالآخر مدّعياً تمثيل الشرعية، وما نجحت به هذه المجموعات هو في إحتراف أخذ الصور في رحلاتها الخارجية مع بعض الأوشحة والعيون الزرقاء وأمام الأصرحة إثباتاً لعلوِّ مكانتها، ناسين أساسات الفكر الحرّ والماسونية التي تقوم على جدارة وخامات الرجال وليس على المظاهر والمسمّيات.
منذ أن كتب جرجي زيدان وأنطون سعاده وغيرهم، لأكثر من مئة سنة والماسونية “اللبنانية” على هذه الحال… تتميَّز قلَّة من المحافل بالثّبات والحفاظ على الوديعة الماسونية! هي كالدرر المكنونة في أحضان الأمينين… كما يقول المثل الماسوني:”فتش عن الرجال وانس الحبال”.
الحبال كالأوهام عند سُبات العقل.
ليظننَّ السارح أنّها ستعليه مكانياً وإجتماعياً.
وفي أكثر الأحيان تقيّده فكرياً…
– حقوق النشر: الدكتور ميشال الخوري © ٢٠٢١