الموقف من الأفكار الجديدة.
كما يصادف جميع أفراد المجتمع تيارات وأفكار جديدة في مساراتهم اليومية، كذلك يواجه الماسوني في تدرّجه أفكار وقيم مستحدثة.
ما هو موقف المفكّر الحرّ تجاه هذه المستحدثات؟
إنّ الماسوني يعتقد جازما بأنّ العالم الذي نعيش به يخضع للنسبية، بما معناه أنه لا يوجد طريقة أو مسار أفضل من غيره، بل ظروف زمنية تناسب الفرد ومتطلباته أكثر في بيئة ومجتمع معيّن. كما يَكمُن في داخله قناعة بأن الوصول الى الحقيقة يأخذ معارج مختلفة إنّما تؤدي جميعها الى قمّة واحدة حيث يتلاقي مع أخاه في الإنسانية.
عند بزوغ تيّار أو فكر جديد لا نقابله بالمعارضة المطلقة كما لا نلاقيه بالقبول الأعمى. تبيّن على مدار التاريخ أنّه لم يتواجد شيء سلبي كلياً ولا إيجابي كلياً، تمازجت هذه في جميع التيارات وبنسبٍ مختلفة.
الإنسان يتطوّر كما المجتمع والأفكار والمقاربات الفلسفية. فبطبيعة الحال تؤثّر هذه في الوجدانيات التي تتغيّر وتتبدّل. من هنا نلحظ أن التطوّر لا يقتصر على مضمارٍ واحد إنّما على جميع جوانب الحياة، وعلى الماسوني أن يسبر هذه المستحدثات لإستخلاص ما هو أفضل وأنسب لتطوّره في زمانه ومكانه.
من هنا المفكّر الحرّ لا يعارض ويرفض أي فكر جديد، بل يخضعه للعقل والمنطق ولمقدرته على الزيادة في التقدّم والتطوّر. قد تناسب بعض المستحدثات شخص دون أن تناسب آخر. فلا حرج في أن يعتمدها من تناسبه، كما أنه لا يسمح لمن لا تناسبه أن ينتقد إختيار هذا الشخص لتلك الأفكار، كما لا يحقّ لمن إقتبسها أن ينتقد الذي لم يقتنع بجديتها. قد يساعد هذا الجديد في تطوّر الأخ ومجتمعه لأنّ البشر ليسوا سواء في التقدّم والتطوّر، هذا ليس حكم لتقييم الأشخاص ووضعهم على سلّم درجات، إنّما لإختلاف مستوى المقدّرات الشخصية والإستعابية من شخص لآخر ومن مجتمع لآخر.
لو إنتقل شخص بالزمان الى الوراء، لَلَحِظَ الإختلاف الكبير وعلى جميع الصعد بينه وبين من كانوا قد يكونوا أقرانه. ولكنّه لو إنوجد في تلك الحقبة لوجد تناسق بينه وبين ما يحيط به ولوجده متناسباً مع وجدانياته. ممّا هو متأكد أن ما نعيشه اليوم في كثير من جوانبه، سيكون دون أهميّة أو قيمة لمن سيرثنا بعد عدّة عقود. من فهم سنة التطوّر هذه، يفهم ويرضى بوجود أفكار جديدة حتى وإن لم تتناسب مع مساراته.
أين تصبح هذه الأفكار خطرة؟
طالما الإقتباس لا يدخل إلّا في الأمور التي تساعد الإنسان على التطوّر والتقدّم فهي حميدة. أمّا عندما يقع الإنسان في متلازمة فكرية وعقائدية مع تيار، بمعنى أنه لا يتحرّك فكرياً إلاً بالعودة الى هذا التيار أو الفكر، يخرج التصنيف عندها من مدار إقتباس أفكار حديثة ومفيدة الى منهج عقائدي، وهذا يتنافى وحريّة الفكر وتطوّره. العقيدة هي من عقد الشيء، وما أن يُعقَد الإنسان الى وتد، ومهما بلغ مقام هذا الوتد ومصدره تقوقع وإنحسر وتوقف عن التقدّم بالرغم من سراب الإعتقاد بالتطوّر والتقدّم. في الحقيقة يدخل الإنسان في حلقة ومهما كبرت تبقى محدودة الأفق. يحصل شبهة تطوّر عند هؤلاء الأشخاص ومجتمعاتهم لأنّهم يقتبسون بعض الأوجه التي تخلق تدرّن في جهة بينما تبقى الأخرى منقبضة، تخلق وتولّد هذه التفاوتات صراعات باطنية.
نعم للأفكار الجديدة ونعم للتيارات الحديثة. نعم وألف نعم لكلّ ما يُغني ويرفع الإنسان. ولا وألف لا لكلّ ما يَعقِدَهُ مهما بلغ من مقام أو مرتبة. قدّمت بعض التيارات الدينية أن ما هي عليه ربّاني، فهو ثابت لأن مصدره سامي. ونسيت أن الله لا حدود تُقَوْنِنَه مهما بلغت من الدرجة الإنسانية، فهو خلاف ذلك، هذه الفرق وقعت في مأزق التَّشبيه. خُلِقَ الإنسان حراً من دون أي قيد، من قدّم أن الإنسان على صورة الله فالله مطلق لا حدود له. من هنا عليه ألّا يقبل إلّا ما يدخل في تمكين سعادته وتطوّره مع إحترام خيارات وتطوّر الآخرين.
مذ أن بدأت بقراءة هذه المقالة حصل تغيير وتطوّر في الكون الذي نعيش فيه إن كنت الآن على ما كنت عليه في بداية قراءتك فهذا يعني أن هناك خلل ما في صيرورتك وإلاً إنوجدت بعد سنين كما أنت اليوم وهذا يتنافى مع التقدّم والتطوّر والتفتيش عن الحقيقة من حولنا.
أين التقليد إذاً والحفاظ عليه؟
التقليد ليس بالشكل إنّما بالديناميكية. كما أسلفنا لو عدنا بالوراء مائة سنة لوجدنا إختلافاً كبيراً فيما بيننا وما بين المفكّرين الأحرار الذين تواجدوا في تلك الحقبة. وبالتأكيد بعد مائة سنة من أيامنا سيجد إخوتنا الأحرار إختلافاً شكلياً معنا، إلاً أنّ الديناميكية التي تجمعنا واحدة والصيرورة ذاتها.
فمن هنا، محاولة إقتباس ما كان عليه أسلافنا والسير فيه، يدخلنا في شبهة التقليد الأعمى الذي يتنافى وتطوّر المجتمع والإنسان.
التقليد جوهر وليس بشكل، خلافه قوقعة و إنطوائية.
هذه المنحوتة هي من الأشكال الرمزية على مثال اللّوحات أو الرموز المعروفة.
قيل عن هذا الرمز كما حصل لكثير من الرموز التي ظهرت في فترة الإنغلاق الفكري والتي كان هدفها نقل ديناميكية الفكر الحرّ الى الأجيال اللاّحقة، بأنّها ترمز الى موسى الذي يسكب الحب من أعلى ويتلقّاه بولس من أسفل، تشبيه ديني سطحي. لو كان هذا ما أراد قوله النحّاة الحرفي لما أخفاه بشكل رمزي ولكان جاهر به مفتخراً، في وقت كانت هذه الطروحات يتلقّاها المجتمع والقابضين على أرواحه برضى وسعادة. ولكانت قدّمت لناحِتِها العزّ والكرامة والجاه الإجتماعي. إخفاءها وعدم الجهر بمكنوناتها يوحي ويبيّن بأنّها ليس بمرّحب بها في الفترة التي نحتت فيها.
يظهر في الصورة رجل كبير في السن يضع الحب في الطاحونة وبعد طحنه يتلقّاه الشاب في الأسفل. هذه من الرمزيات التي تمثّل إنتقال التقليد والعلوم السابقة الى الأجيال اللاّحقة إنّما بعد طحنها أي تحويلها لما يناسب مكانتها الزمنية والعملية. نفهم من هذا أن المتلقّى ليس كما هو بالشكل إنّما بالمضمون الديناميكي والعملي.
فيكون التقليد كما أسلفنا بالمضمون الديناميكي وليس بالشكل.
هذه الصفحات تنتظر كتاباتك أنت لتسطّر فيها حياتك بيدك وبقلمك.
الحقيقة وراء هذه السطور.
كلمات مستوحاة من الكتب الموروثة القديمة وبأحرف جديدة.
– حقوق النشر: الدكتور ميشال الخوري © ٢٠٢١