الواجبات القديمة
عرفت الشعوب مبادئ إعتُبرت سامية، ذات مكانة عليا لا يعلوها شيء، قائمة بذاتها، هي أساس المصادر والتشريع، مرجعيتها لا تناقش، أحقيتها لا توضع على المحك، هي الملهمة للدساتير، هي المرجع، هي المجسدة للحقيقة. مصدرها إلهي أو رباني أو عرفي، موحات أو منتقلة بواسطة نبي أو إختبار تاريخي، بالإضافة الى مضمونها طريقة وصولها إلينا خارقة.
تُكُلِّمِ في الديانة البوذية عن مبادئ عشرة يعتبر تابعي هذه الديانة أن هذه المبادئ والوصايا الهية.
في القانون الفرنسي الملكي القديم عُرِفت “القوانين الأساسية للمملكة” هذه مبادئ غير مكتوبة متعارف عليها وعلى شرعيتها، معمولٌ بها ومقبولة من الجميع، طبّقها جميع الملوك والمملوكين دون وضعها على النقاش. قال الملك الفرنسي لويس الرابع عشر الذي إعتبر من أقوى ملوك فرنسا سلطة، أن قواعد الملك هي في “عدم مقدرة حميدة على تغييرها”.
في الشرع البريطاني، تعمّدت السلطات القضائية عدم كتابة القوانين، معتمدة على العرف ومعتبرة أن هذا ضمانة لحسن سير القضاء ولإرساء العدل.
في التاريخ اليوناني كتب عن انتيغون (Antigone) الذي نهر الملك كريون (Créon) قائلا بان هناك قوانين إلهية تعلو ما يكتبه البشر وتتقدّم عليها.
هذه بعض الأمثلة التي تبين بان البشر عامة إعتمدوا قوانين عرفية، نستطيع أن نسميها “قوانين كبرى”، التى لا يجرؤء أي مشرّع أن ينقضها أو يغير من مضمونها وذلك لسبب بسيط هو أنها غير مكتوبة.
في الماسونية نجد أيضاً ما يسمى ب “الواجبات القديمة”، هي واجبات غير مكتوبة، معترف بها من جميع الماسون عامة ومقبولة. هذه الواجبات تسمّى بالانجليزية (Landmarks) وفي الفرنسية (Anciens devoirs).
في الإنجليزية كلمة (Landmarks) تعني الشارات المحددة للأراضي. كشارات المساحة في القرى المعروفة من الجميع، قد تكون رافد نهر أو صخرة أو شجرة قديمة تحدد الحدود بين الأراضي، الكل يعرفونها ويعترفون بها ولا يتجاوزنها.
في ما عُرِف بالبنائين القدامى، الذين قال فيهم بعض المؤرخين أنهم من متقدِّمي البنائين الأحرار الجدد كان عندهم واجبات ومنها:
- الإيمان بالله.
- إحترام المبادئ الأخلاقية.
- وحدة الإجتماع المعروفة بالمحفل.
- الذكورية ، لم يكونوا يقبلوا إلا رجالاً فيما بينهم.
- السرية.
يجد الباحث في مركز الدراسات والأبحاث الماسونية مقالات مفصّلة عن هذه الواجبات وتاريخ ظهورها. في المخطوط المعروف بالريجيوس أخذت هذه الواجبات شكل منسق تعليمي. في دستور اندرسون المنشور سنة 1723 تكلم عن المحافظة على الواجبات القديمة فيما يتعلق بسلطة المحفل الأكبر التي يجب أن تبقى ضمن مفهوم الواجبات الكبرى. والمادة 55 تعطي الحق للأستاذ الأعظم بشطب الطروحات التي تتناقض أو تتعارض مع الواجبات الكبرى من جداول الإجتماعات.
يكتب جون سيمونس (John W. Simons) في أصول التشريع الماسوني بأن الواجبات القديمة هي: ” الواجبات القديمة، هي المبادئ التطبيقية الموجودة منذ أزمنة غابرة، منها ما هو مكتوب ومنها ما هو غير مكتوب، هذه المبادئ أساسية لعائلتنا، وهي في القناعات العامة ثابتة غير متغيرة. على كل ماسوني أن يحفظها ويحميها مستلهما منها بحسب القسم العلني الذي إتخذه”.
مما سبق ومما هو متعارف عليه، نستطيع أن نستخلص بأن الواجبات القديمة هي مبادئ:
- غير متغيّرة قائمة كما هي.
- لا نستطيع أن نزيد عليها.
- لدينا الإمكانية بشرح تفاصيلها.
- لو تكلمنا بالمحال بان جميع الماسون في العالم إجتمعوا وقرروا حزف مبدئ أو زيادة آخرى لما استطاعوا.
- الواجبات ليست برمز ولا قصة رمزية إنما قاعدة.
- الواجب ليس بعقيدة، لأن اصله إنساني.
- من يخالف هذه الواجبات يخرج عن الحقيقة الماسونية.
قبل المحفل البريطاني المتحد الكبير، جَمَع الامريكي البير ماكي (Albert Mackey) هذه الواجبات وعدّدها في 25 واجب، إعتبرهم بعض القائمين غير مسموح بهتكهم. كما إعتبر ان هذه الواجبات شفوية بينما الدساتير كتابية.
من أهم هذه المبادئ طريقة تعارف الأخوة، الإجتماع في محفل، الأعراف التي يتصرف من خلالها الأساتذة والإستاذ الأعظم. كما أنه ضمّنها البند الثامن عشر من مبادئ اندرسون، الناهية عن تكريس النساء والعبيد ومن لم يولدوا احراراً (تبيّن فيما نعد أن هذه دسّت من قبل مجمزعة انجليزية، مرتكزة على مبدأ ديني). في سنة 1847 إستبدلت جملة من كان “مولودا غير حر” ب “رجل حر” للسماح لمن إعتقوا بدخول الماسونية. كما إشترط ماكي في الواجب العشرين الإيمان بالقيامة.
ما كتبه ماكي (Mackey) لا يعتبر “الواجبات القديمة” إنما محاولة لكتابة وجمع هذه الواجبات.
في سنة 1893 قام غرانت (H.B. Grant) وهو سكرتير المحفل الاكبر في كنتاكي (Kentucky) بأمريكا بإضافة واجبات إعتبر أن ماكي أسقطها، وتبنّى 54 واجبا. الواجبات المعروفة اليوم تنقسم الى قسمين، قسم من الإرث الإنجليزي جمعها المحفل الأكبر البريطاني سنة 1929 و لم يُبقى إلا على ثماني واجبات إعتبرها جامعة، وعلى أساسها إعتبروا الإعتراف بمحفل أو بإتحاد، وقسم شذّب الواجبات مرتكزا على دراسات تاريخية. تجد في هذا مقالات في مركز الدراسات والأبحاث الماسونية. في واجبات سنة 1929 التي لم تعد قديمة، شددوا في البند الثاني والرابع على الإيمان ب مهندس الكون الأعظم كما أنهم أبقوا على منع النساء من الإنخراط في الماسونية، الشيئ الذي لم تقبله بقية المحافل. أدّى هذا التبني الى إحداث شرخ، إذ أن إتحادات أوروبية تقبل وتكرس النساء كما أنها لا تلزم بالإيمان بمهندس الكون الأعظم، وتترك الحرية في مجال العقيدة. ظهر في الغرب خطين أحدهم يُدعى ليبرالي ولا يقبل حدود أوتأطير عقائدي لمسيرته والثاني تابع للمحفل الكبير البريطاني الذي يتبنى الواجبات الثمانية كما هي.
ما هو معروف، أن المحافل الغربية ومن حولها، لم يعنوا بالإلتزام التام بالواجبات المكتوبة من قبل المحفل الأكبر البريطاني سنة 1929، إذ انها كتبت على يد رجال يبقون رجالاً مهما بلغوا من العلم أو المكانة، ويعتبروا الواجبات أعلى وأسمى مما حدد كتابيا، وهي في عهدة كل إتحاد ومحفل وماسوني حر أو بالحري بعهدة المسيرة الإنسانية، ويجب ألاً تتضمن أي مبدأ يفرّق على أساس المعتقد أو الجنس أو العنصر الخ..
لائحة الواجبات كما جمعها ماكّي (Albert Mackey):
- طرق التعارف.
- قسمة الماسونية الرمزية الى ثلاثة اقسام.
- قصة الدرجة الثالثة.
- ترأس أستاذ أعظم منتخب إدارة المحافل.
5 الى 8 حقوق الاستاذ الاعظم.
9- واجب الإجتماع في محفل.
10- ادارة المحفل من قبل إستاذ ومعاونين.
11- واجب العمل تحت السرية.
12 الى 14 حق كل ما سوني بالوصول الى جميع الإجتماعات والجمعيات العامة وإبداء رايه، حق زيارة المحافل الأخرى.
15- طرق التعارف.
16- منع محفل من التدخل في أمور وشوؤن محفل آخر.
17- إختصاص المحفل مكانيا.
18- أن يكون الطالب ذكر، غير مشوه، حر النسب وراشد.
19- الإيمان بالله مهندس الكون الأعظم.
20- الإيمان بخلود النفس.
21- وجود نسخة من الكتب الدينية أوقات العمل.
22-23 – السرية.
24- تناسق العمل الفكري مع العمل اليدوي القديم وإعتماد الرمزية.
25- هذه الواجبات غير متغيرة وغير قابلة لإعادة الصياغة.
لا يقبل الفكر الحر أن يتأطر من خلال كلمات وحروف وقواعد مهما بلغت من المكانة. ما كتبه ماكّي يتعارض مع الواقع التطوري للبشرية الذي تؤمن به الماسونية. الماسونية تعي الزمان والتاريخ، بما معناه أنها تعرف أن الوقت لا يعود الى الوراء وبوجود أمس وجد اليوم وبوجود اليوم سيكون الغد. التطور من القواعد الإنسانية الأساسية، كما أن الوعي التاريخي يلزم إضافات على المسيرة الإنسانية.
التقييم التاريخي يبين عدم الإنصياع لواجبات مكتوبة، فطرق التعارف تبدّلت مع الوقت فيما بين الماسون. كما أن إدارة المحافل تغيّرت.
الفقرة 16 تنص: في حال تجاوز محفل حدوده وتعدّى على الإنتظام العام من واجب الماسون التدخل لردعه. كما في كل جمعية بشرية هناك إمكانية الإبتعاد عن الأهداف الأساسية أو إستعمال المحافل لغير أهدافها، فعندها ومن واجب المحافل الاخرى التدخل لتقويم الخلل. في بعض الإتحادات التي سمحت بالعمل دون مراقبة حصل على مدار التاريخ بعض التجاوزات التي اساءت الى الماسونية عامة.
عدم قبول النساء يتعارض مع إنسانية الماسونية، التي لا تفرق لا على أساس العرق ولا الدين ولا اللون ولا اللغة ولا الجنس. ففي المخطوط المعروف بالريجيوس (1390 Regius) يلحظ وجود نساء تشارك في بعض الأعمال. من هنا عمدت الاتحادات المعروفة ب “الحق الانساني” بقبول النساء.
من جهة العقيدة، كثير من الإتحادات تمتنع من الزام أعضائها بعقيدة واحدة تاركة لهم حق المعتقد على أن لا يؤثر هذا على العلاقات الأخوية وألا يعمد أخ الى التبشير داخل المحفل، إذ أن الماسونية تمتنع من التكلم بالدين والسياسة.
هذه الواجبات ادّت الى ظهور ثلاث إتحادات، سمّيت:
- المنتظمة، التي تعتمد الواجبات وتتأخى مع المحفل البريطاني المتحد الكبير.
- المحافل الليبرالية التي تترك للمعتقد الحرية الكاملة دون التدخل فيه ولا الإفصاح عنه.
- الاتحادات التي تجمع بين النساء والرجال.
اين هي الماسونية في لبنان من الواجبات وهذه الاتحادات؟
سيجد الباحث في مركز الدراسات والأبحاث الماسونية وصف مفصل عن واقع الماسونية في لبنان.
على الماسونية في لبنان أن تتمتع بميزة إنسانية وكونية عامة وشاملة ومتقدّمة، و أن تقف أمام جميع هذه الإتحادات متقدّمة عليها بالزمان والتنوير.
على الماسونية في لبنان أن تعطي الحق المطلق للمنتسب في عقيدته، فالدستور اللبناني يعترف بالأديان قاطبة، وعلى الماسونية الناشئة من صلب هذا الوطن المتعدد العقائد والأديان أن تنصبغ بصبغة التسامح ولا تتدخل في سبر عقيدة أو دين أفرادها. فمن أفرادها المسلم والمسيحي والموحد الخ. كما أن على الماسونية في لبنان أن تقبل النساء في صفوفها، لأن خلاف هذا تمييز عنصري ويتعارض مع أساسات الفكر الحر والتساوي في الإنسانية. تكون عندها وهكذا، قد جمعت بين جميع إتحادات الماسونية العالمية، في جذع صلب على مثال جذع الأرزة التي تزيِّن علمنا اللبناني.
على الماسونية اللبنانية أن تدعو دائما الشروق الكبرى والمحافل الكبرى الى التعالي، ومد اليد وإقامة إتحاد عالمي يجمع جميع أفرادها على أساس الاخوة الصادقة والإنسانية الجامعة نابذة كل تفرقة اياً كانت أشكالها.
قصة حيرام أبي أخذت جذورها من لبنان والماسونية المستقبلية ستأخذ جذورها من بلد الارز المتسامح.
تتميز اللوحات الفنيّة، عندما تمتزج الوانها فيما بينها.
– حقوق النشر: الدكتور ميشال الخوري © ٢٠٢١