بحث في مضمون الأناجيل.
بعض التناقضات في الكتب كانت سبباً في نشأة الغنوصية الفلسفية المسيحية، التي إضطهدت من قبل السلطات القائمة. من أراد التعمّق في هذه الرسالة يستطيع العودة الى مواقع الغنوصيين الفلسفية وليس الدينية، المتوفّرة بكثرة على الشبكة العنكبوتية.
نورد فيما يلي بعض من ما قدّمته هذه الفرق لتبيان موقفها.
المرجع الذي تبنى عليه العقيدة يجب أن يكون:
- موحى به وأن لا يتضمن أخطاء ولا تناقض.
- أن يصل إلينا بسند متّصل مدعّم وبتواتر.
- و تكون النسخ التي بحوزتنا هي هي نفس النسخ الأصلية.
للوحي شروط وهي التكامل عدم التناقض، الإعجاز، مناسبة ما هو موحى لمن أوحى إليه، مناسبته للفطرة البشرية وعدم وجود مماثل له سابقاً ليخرج من بدعة النقل الى الإعجاز.
النقل يجب أن يكون عن كثرة كثيرة وبتواتر، وبتقارب المنقولات بعضها من بعض في المعنى والمبنى. كما يلزم عدم وجود أي خلل أو خطأ علمي أو لغوي أو تاريخي أو جغرافي الخ…
الموحى به يجب أن يكون على مثال مَن أوحاه (الله) كامل متكامل. هذا ليس بتشكيك في رسالة يسوع، إنّما يطرح بعض التساؤلات عن المنقول عنه من هذه الطريقة.
سنعرض بعض الأخطاء والمغالطات التي تُخرج بعض الكتب من دائرة الوحي وتلزم التعامل معها على أساس أنها نصوص تخضع للعرض والدراسة.
مغالطات ومفارقات في بعض الأناجيل المعتبرة كمصدر في العقيدة المسيحية. مصدر وإن لم يكن كما تعتبره بعض الفرق في الحديث، كان هكذا في القديم، وعند بعض الفرق في الحديث.
لا يتّسع بحثنا لكتابة كل الأخطاء والمغالطات إذ أنّها بعدد آيات بعض الأناجيل المعتمدة من الكنائس، سنكتفي ببعضها التي استعملها الغنوصيون، لإثبات ولنفي صفة النصّ المقدّس.
في ميلاد المسيح.
إذا قارنّا قصة ميلاد المسيح ما بين ما جاء به متى ولوقا لوجدنا من المفارقات ما يلي:
المفارقة | متى | لوقا |
المفارقة في سلالة المسيح | يوسف زوج مريم إبن يعقوب 1-16 | يوسف زوج مريم إبن هالي 3-23 |
| يتحدر من سليمان ابن داود 1-7 | يتحدر من ناتان ابن داود 3-31 |
| يَكُنيا ولد شلتيئيل 1-12 | نيري ولد شلتيئيل 3-27 |
| ابهود إبن زوروبابل 1-13 | ريسا إبن زوروبابل 3-27 |
من داود إلى المسيح 26 سلالة عند متى و41 سلالة عند لوقا. والغريب في الأمر أن الراَووين يفصِّلون سلالة يوسف بالرغم من أنّه لم يكن إلا خطيب مريم ولم تحمل منه، لكان أقرب إلى المنطق تعداد سلالة أمه مريم. حاول الإنجيليين أن يبيّنوا المسيح من سلالة داود لأنه هكذا ورد في بعض كتب العهد القديم فكان لزاماً إعتباره من هذه السلالة ليكون وارث العهد.
بحسب التقليد اليهودي، اليهودية تنتقل من الأم إلى الإبن وليس من الأب إلى الإبن فجميع الجهود التي بذلها كاتبي هذه الكتب في هذا الموضوع هي في غير محلّها.
كما أنّه يوجد في سلالة المسيح المروية في الأناجيل أربع نساء يشكّ في يهوديتهم وهم: تمارا، راحاب، راعوث و بتسابي زوجة أوريا.
من هم هؤلاء النساء؟
تمارا: كان ليهوذا وهو عبراني ثلاثة أولاد اور، اونان وشيلا، كانت العادة إذا توفي رجل أن يتكفّل الأخ زوجة أخيه ليؤمن لها ذريّة. توفي أور زوج تمارا دون أن ينجب منها فطلب والدهم من اونان، أخ المتوفّى أن يتكفل زوجة أخيه إلا أن هذا الأخير لم يتزوجها. علمت تمارا بأن عمها والد زوجها المتوفى سيدخل المدينة التي تسكنها فتزينت بزي مومس وجلست على مدخل المدينة، عند وصول يهوذا أغرته فلم يعرفها ودخل عليها وأنجبت فارس، والى فارس هذا ينسب المسيح. بحسب تكوين 38: 13-26.
راحاب: عند وصول العبرانيين على أبواب أريحا أرسلوا جاسوسين لدراسة وضع المدينة، فدخلوا بيت مومس اسمها راحاب، ساعدتهم هذه على أمل أن يعفَون عنها عند دخولهم المدينة، فكان ما وعدوها به، أنجبت راحاب هذه من سليمان بوعذ واليه ينسب المسيح. من سفر ياشوع الفصل الثاني 12-21ومتى 1: 5.
راعوث: هاجَرَ اليمالك وهو من العبرانيين وزوجته نعومي إلى أرض المعابيين، هناك تزوج أولاده من معابيتين ومنهم راعوث. معاب منطقة في جنوب شرق الأردن وسكانها ليسوا من العبرانيين. توفي أولاد اليمالك دون أن ينجبوا أولاد، بعد موت اليمالك عادت نعومي ورجعت معها راعوث أرملة إبنها إلى بيت لحم. كانت راعوث لفقرها تلملم ما بقى من المحاصيل على أرض بوعذ. نصحتها أم زوجها بأن تستحم وتتعطّر وتحاول عند المساء الإندساس في مخدع صاحب الأرض بوعذ وهذا ما حصل وأنجبت منه جوبد واليه ينسب المسيح. راعوث1: 8-18 و راعوث 3: 1-18
بتسابي زوجة أوريا: كان الملك داود يتمشى على المسطبة أمام منزله ليلا، فرأى امرأة تستحم، أخذ بجمالها، علم بأنها زوجة قائد في جيشه اسمه أوريا، استدعاها ودخل عليها بالرغم من أنها كانت على عصمة أوريا، بعد علمه بحَملِها أرسل زوجها أوريا في خديعة إلى ساحة معركة وصفت بالخطرة جداً حيث قتل وهكذا تخلّص منه. والى امرأة أوريا ينسب المسيح. 2 صموئيل الفصل 11 و 12.
كل هذه الروايات تشكّك في مصداقية نسل المسيح عيسى ابن مريم روح الله وكلّمته.
نحن أمام نسب مشكوك فيه ومخجل ولا يليق لا بعيسى ابن مريم ولا بأمه بحسب ما ورد في بعض الكتب.
شهادة المسيح لنفسه.
التناقض في شهادة المسيح لنفسه:
يوحنا فصل 5: 31: “لو كنت أنا اشهد لنفسي لما كانت شهادتي حق”.
وفي الفصل 8: 14 من الإنجيل نفسه يقول: “إني، وان كنت اشهد لنفسي، شهادتي صادقة، لأنني أعلم من أين جئت والى أين أذهب”.
في خيانة يهوذا.
ورد في إنجيل متّى الفصل 26: 20-25 ما يلي: ” ولمّا كان المساء إتكأ مع التلاميذ الإثنا عشر، وفيما هم يأكلون، قال: “الحقّ أقول لكم، إن واحداً منكم سيسلّمني”
فاستولى عليهم حزن شديد، وشرع كل واحد يقول له، “ألعلّي أنا، يا رب؟”، فأجاب، وقال، “إنّ الذي غمس يده في الصّحفة، هو الذي يسلّمني!، إن ابن البشر ماضٍ بحسب ما هو مكتوب عنه. ولكن ويل لذلك الرجل الذي يسلّم ابن البشر! فلقد كان خيراً لذلك الرجل أن لا يولد”، فأجاب يهوذا الذي كان مزمعاً أن يسلّمه، وقال “ألعلّي أنا، رابي؟ ” فقال له “أنت قلت”.
أما في إنجيل يوحنا الفصل 13: 25- 26 “فأستند ذاك (يوحنا) إلى صدر يسوع، وقال له “رب من هو؟” فأجابه يسوع “الذي أعطيه اللّقمة التي أغمسها”. وغمس اللقمة وناولها ليهوذا بن سمعان الإسخريوطي”.
في القصة الاولى غمس يهوذا يده في الصحفة وفي الثانية هو من ناوله اللقمة.
ساعة نكران بطرس بمعرفته بالمسيح.
في متّى 26: 69-73 يروي عن وجود جاريتين عرفتا بطرس.
وفي مرقص 14: 66-70 يروي عن وجود جارية وأناس.
وفي لوقا يتكلّم عن جارية ورجلين.
ساعة صلب المسيح.
بحسب لوقا23: 44 “وكانت نحو الساعة السادسة، وأطبقت ظلمة على الأرض كلها حتى الساعة التاسعة، لأن الشمس قد كسفت”.
وفي مرقص15: 25 “وكانت الساعة الثالثة لما صلبوه”.
بحسب متى 27 :45 “كان على الصليب من الساعة السادسة حتى التاسعة”.
أما في إنجيل يوحنا 19:14 ففي الساعة السادسة كان لم يزل عند بيلاطس.
وقت صلبه كيف تعامل معه من صلب بجانبه.
في مرقص 15 : 32 “هو المسيح !… ملك إسرائيل! .. فلينزل الآن عن الصليب، لنرى ونؤمن. واللذان صلبا معه كانا هما أيضاً يعيّرانه”.
أما في لوقا 23: 39-43 “وكان أحد المجرمين المصلوبين معه يجدّف عليه، قائلاً: “الست أنت المسيح؟” فنجِّ نفسك، وإيانا أيضا”، فأجاب الآخر، وانتهره، وقال: “أفلا تخشى الله وأنت مشتَرِك في الحكم نفسه! أمّا نحن فبعدل إنّا نعاقب بما قدّمت أيدينا، أما هو فلم يفعل شيئاً من السوء”، وأردف قائلاً “يا يسوع.. أذكرني متى جئت في ملكوتك”، فقال له: “الحق أقول لكَ إنك اليوم تكون معي في الفردوس”.
بينما الإثنين يعييرانه في كتاب مرقص في إنجيل لوقا أحدهم يستجديه ليذكره في ملكوته.
إعطاء يسوع الشراب على الصليب.
في مرقص 15 :23 “فقدموا له خمراً ممزوجة بمرّ، فلم يأخذ”.
في متى 27: 48 “وفي الحال هرع واحد منهم، وأخذ إسفنجه فأشبعها خلاً، ووضعها على قصبة وجعل يسقيه”.
هذا غيض من فيض من تناقض الأناجيل المعتمدة من الكنائس، وهذا من أحد الأسباب التي أدى الى نشوء فرق وشيع مختلفة في القرون الأولى للتأريخ الميلادي.
المصدر الثاني للعقيدة المسيحية كتابات بولس.
ادّعى بولس بأنّ الوحي القيَ عليه مباشرة من المسيح وبأنّ هذا هو الحق ومن خالف هذه التعاليم خالف المسيح. أختزل بولس بهذا كل رسالة المسيح وما ورد في الأناجيل وبدّله بما أوحي إليه مباشرة، فما كانت إذا الفائدة بأن كرز المسيح السنين العديدة المعروفة إن كان سينسخه برؤية واحدة الى بولس؟
بعد التعريف ببولس ورسائله، ستتبيّن الإختلافات الأساسية ما بين العقيدة المروية عن المسيح وما كتبه بولس، فسيتبيّن لنا مسيحيتين مختلفتين في المبدأ والمنهج نتج عنهما نظرة ثالثة طبعت مفهوم الكنائس المسيحية المعروفة اليوم فنكون أمام ثلاثة أنماط للمسيحية.
من هو بولس؟
يقول بولس: “أنا يهودي ابن فريّسي على رجاء قيامة الأموات”[1]
“سمعتم بسيرتي قبلا في الديانة اليهودية، إني كنت اضطهد كنيسة الله بإفراط وأتلفها، وكنت أتقدّم في الديانة اليهودية على كثيرين من أترابي في جنسي إذ كنت أوفّر غيرة في تقليدات آبائي”[2].
يتبيّن من كتاباته أنّه ملمّ بالفلسفة الإغريقية والديانات السابقة وفي العقائد السائدة كما أن موقعه يوضح بأنه كان ذات علم ومعرفة ولقد تتلمذ على ما قال هو، على يدّ غلامايل وهو من كبار علماء اليهود[3].
كيف تحول بولس من يهودي فريّسي إلى مسيحي؟
– في اهتداء بولس.
تختلف رواية إهتداء بولس- وبحسب ضرورة النصّ- وخلاصتها: أنّه كان مسافر إلى دمشق وعلى طريق دمشق حصل له بعد ظهور خارق تغيير وجداني وداخلي وفي هذه الرواية روايتين:
- ورد في أعمال الرسل 9: 7: “أما الرجال المسافرون معه فوقفوا مبهوتين، يسمعون الصوت ولا يرون أحدا”.
- وفي نفس السفر أعمال الرسل الفصل 22: 9 يروى: “لقد رأى الذين كانوا معي النور، إلا أنّهم لم يفقهوا صوت الذي يكلّمني”.
مرة سمعوا الصوت ومرة لم يسمعوه ومرة رأوا النور وفي رواية لم يروه، مع العلم أن الروايتين في الكتاب وفي السفر نفسه.
في تسلّم بولس مهمته والمغالطات التي وردت فيها وكيف تلقّاها.
- أعمال الرسل فصل9: 6 “ولكن انهض، وادخل المدينة، فيقال لك ماذا ينبغي أن تفعل”.
- في الفصل 26 من اعمال الرسل :16-18 يقول لنا: “ولكن انهض، وقف على قدميك، فإني تراءيت لك لأقيمك خادماً، وشاهداً بما رأيت وبما سأريك. ولقد فرزتك من الشعب ومن الأمم الذين أنا مرسلك إليهم، لتفتح عيونهم فيرجعوا من الظلمة إلى النور، ومن حوزة الشيطان إلى الله، و ينالوا بالإيمان بي، مغفرة الخطايا، وقسمة ميراث مع المقدسين”.
ففي أول الرسالة يقول أنّه يجب على بولس أن يدخل المدينة ليتلقى مهمته، أمّا في نهاية السِفِر فأن المسيح بذاته يعطيه ويوكله بمهمته ويعرض عندها بولس الخطوط العريضة لمهمته الأمميّة الجديدة.
كما أن الراوي يقول في الفصل9: 7 من أعمال الرسل من كان معه “وقفوا مبهوتين” إلا أنّه في الفصل 26 :14 يقول ” فسقطنا على الأرض جميعا”.
ويقول لوقا وهو طبيب وكاتب أعمال الرسل وتلميذ بولس في الفصل9: 3 وعندما كان بولس قريباً من دمشق أبرق حوله نور من السماء فسقط على الأرض وسمع صوتاً قائلاً له: شاءول شاءول لماذا تضطهدني؟ فقال: من أنت؟ فقال الرب: أنا يسوع الذي تضطهده. فقال وهو مرتعد ومتحيّر: يا رب ماذا تريد أن افعل؟ فقال له: قم وكرّز بالمسيحية.
الرواية حول تلقّي بولس مهمته تبدأ بمفارقات ترسي الشكوك حول ماهيّتها ومضمونها، لأن ما هو موحى يجب أن يكون قطعي الشكل والمضمون وبخاصة عندما يحاول نسخ رسالة إبراهيمية (رسالة يسوع ابن مريم) امتدّت على عدة سنين وحُضّر لها على مدى قرون وأجيال وموحى بها إبتداءً من الله. يعتقد المسيحيون بأنّ الروح ألهم بولس وأنار بصائره! وقد يكون العكس وتكون هذه القصة لغاية ولإغراض أخرى ويكون بولس اليهودي المقتنع بيهوديته والمتزمّت لها قد اندس بين صفوف المسيحيين لتبديل عقيدتهم وضرب دينهم من الداخل، إن مسار التاريخ ومنهج العقيدة المُكرَز بها، سيبيّن لنا حقيقة هذه الواقعة. وسيتبيّن لنا كيف نقض بولس تعاليم المسيح وأرسى مكانها عقيدة وروحية جديدة.
في مضمون العقيدة بحسب الأناجيل الأولى مقارنة مع ما قدّمه بولس.
علّم المسيح بحسب الأناجيل بأنّ التوبة والإمتناع عن الأعمال المشينة والإلتزام بمفهوم الناموس الموسوي والتغيير الداخلي الصادق وقبول الآخرين هو السبيل إلى الخلاص ووراثة الملكوت، بشّر يوحنا المعمدان في متى 3: 2 ” توبوا، فإن ملكوت السموات قريب”. وفي متى 4: 17 اكد يسوع قول يوحنا المعمدان بقوله “توبوا، فإن ملكوت السموات قريب”.
– في خطبته على الجبل قال يسوع: “طوبى للودعاء، طوبى للمساكين بالروح، طوبى للرحماء، طوبى لأنقياء القلوب، طوبى لفاعلي السلام. انتم ملح الأرض…” متى 4: 23.
– في متى 4: 17 قال “لا تظنوا أني جئت لانقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لانقض بل لأكمل”.
– أضاف “الحق أقول لكم أنه إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول من الناموس ياء ولا نقطة حرف حتى يكمل الكل”. متى 4: 18.
هذا يبيّن أن تعليم المسيح الأساسي مرتكز على عمل شخصي وتغيير داخلي ومبني على الناموس المعروف والمتجدّد البارز من خلال أعمال تقوى ورحمة وصدق وهذا ما أكّده تلميذه يعقوب في رسالته الفصل الثاني رقم 26 بقوله “فكما أن الجسد بدون الروح ميت، كذلك الإيمان بدون أعمال ميت”، فالخلاص بحاجة إلى إيمان والى أعمال وليس بفداء من شخص آخر إنما هي علاقة ما بين المؤمن وربه.
لم يتكلّم المسيح عن دَين ووزر موروث من آدم وعن خلاص مجاني بمجرّد الإيمان به، كما أنّه لم يتكلّم عن فداء بدماء الذبائح، وأن بموته ستتحقّق الذبيحة الكبرى التي ستعوّض عن كل الذبائح. عندما سأله أحد علماء الناموس في القصة الواردة في متى 22: 36-40 وفي لوقا 10: 25-37 “يا معلِّم ما أعظم الوصايا في الناموس” أجابه “أحبب الربّ إلهكَ بكل قلبك، وكلّ نفسك، وكل ذهنك هذه هي الوصية الكبرى الأولى والثانية أحبب قريبك كنفسك، بهاتين الوصيتين يتعلّق الناموس كلّه والأنبياء” هذا تأكيد لما ورد في الناموس في سفر تثنية الإشتراع 6: 5 التي ورد فيها ” فتحب الربّ إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوّتك” وفي لاويين 19: 18″ لا تنتقم ولا تحقد على أبناء شعبك بل تحب قريبك كنفسك. انا الرب”.
في الرواية الواردة في إنجيل لوقا حدّد السائل سؤاله بقوله ” لكي أرث الحياة الأبدية” والجواب كان واضح ولم يأتِ على خطيئة متوارثة وبأن الخلاص سيكون بذبيحة يكون كبشها المسيح نفسه.
قد يتخيّل للبعض بأنّ ما أوحي إلى بولس قادر بنسخ كلام المسيح لأن المسيح نفسه أوحاه لبولس، على هذا يجيب يسوع بنفسه في إنجيل مرقص بقوله في الفصل 13 رقم 31 ” السماء والأرض تزولان وأمّا كلامي فلا يزول”.
فمن هنا كلّ ما أورده بولس وكان مخالف لتعاليم المسيح يكون دخيل وذات مغزى وغاية، ومن أهدافه تشويه الديانة الإبراهيمية السماوية والمكمّلة للرسل من قَبْلِه. سنتعرّف على بعض المواضيع التي تختلف كلياً ما بين ما علّمه المسيح وما علّمه بولس.
يجب الإشارة هنا إلى أن الرسائل المنسوبة إلى بولس لا يوجد إجماع على أن بولس هو كاتبها ممّا يزيد في التشكيك بمضمون هذه الرسائل. يقسم عالم الكتاب (براون) Raymond E. Brown[4] وعليه إجماع علماء الكتاب رسائل بولس إلى ثلاثة أقسام وهي:
- ما كتبه بولس ما بين سنة 51 و55 وهي رسائله إلى تسالونيكي، غلاطية، فيلمون، فيليبس، الرومانيين وأهل كورنتس.
- ما كتبه رسل بولس وهي الرسالة إلى كولوسي، افسس وثاني رسالة إلى تسالونيكي.
- ما كتب بعد بولس الرسالة إلى تيموتاوس وتيطس.
ما قدّمه بولس من جديد ولم يذكر لا في الأناجيل ولا على لسان يسوع[5]:
- أن المسيحية ليست ديناً لبني إسرائيل فقط بل هي دين عالمي.
- التثليث ويتبع ذلك إلوهية يسوع وإلوهية الروح القدس.
- كون يسوع ابن الله ونزوله من السماء ليضحى بنفسه تكفيرا عن خطيئة البشر.
- قيامة يسوع من الأموات وصعوده ليجلس عن يمين أبيه كما كان من قبل ليحكم ويدين البشر.
اعتبر بولس موت يسوع الذبيحة العظمى، وقدَّم هذه الذبيحة كوفاء لدَين عن جميع خطايا البشر. ويكون وبحسب تقديره، الإيمان بهذه الذبيحة هو الكافي والوافي لكسب الحياة الأبدية ومغفرة الخطايا. ويمحو هكذا بولس كلّ ما حثّ عليه المسيح من أعمال وتعاليم لكسب الخلاص وغفران الخطايا.
لم يخفَ هذا على المسيحيين الأوائل الذين انفضوا من حول بولس وتركوه فكتب في رسالته إلى تيموتاوس الثانية فصل 4: 16 ” لم يقدم معي أحد بل تركني الجميع”. وفي رسالته إلى أهل غلاطية فصل 2 رقم 13 يكتب “حتى برنابا انجرّ إلى تظاهرهم”. تبيّن الكتابات أنّه كان هناك مقاومة لكتابات وأعمال بولس إلا أنها أُطفأت وأُخمِدت في المهد.
من المفارقات بين ما علّمه المسيح وتعاليم بولس.
نفي بولس ضمنا إقامة المسيح للموتى.
يقول النص الوارد في الأناجيل بأن المسيح أقام ثلاثة أشخاص من الموت وهم أبنت يائير، متى 9: 18-26 وابن الأرملة في مدينة نائين، وردت قصته في لوقا 7: 11-17 واليعازر في يوحنا فصل 11، أما بولس في رسالته إلى أهل كورنتس الأولى 15: 20 يقول “ولكن، لا، فأن المسيح قد قام من بين الأموات باكورة للراقدين”. بمعنى انه أول من قام من بين الأموات.
فبالنسبة لبولس يكون المسيح أول القائمين من بين الأموات والثلاثة السابقين! هل كانت قيامتهم من الموت حقيقة أم مسرحية لإبهار الجماهير، وإن كانت قيامتهم من بين الأموات حقيقة فلماذا تناساها؟ أم كان هذا لتقديم نظرته الجديدة في الإيمان والخلاص والفداء بذبيحة المسيح.
أساليب وطرق العبادة.
قام المسيح بالبشارة متنقلاً من مدينة إلى أخرى كما أصرّ على الصلاة الفردية الخاصة كما فعل في بستان الزيتون، حيث وبالرغم من حَرَج الساعة أمرهم بالصلاة كلٍ لوحده، وصلى هو على انفراد، ففي متى 6: 1 يقول” احترزوا أن تصنعوا بِرَّكم أمام الناس” وفي الرقم 5 من نفس الفصل “ومتى صليتم لا تكونوا كالمرائين فإنهم يحبّون الصلاة قياماً في المجامع”..”أما أنت فمتى صليت فأدخل حجرتك وأوصد الباب وصلي إلى أبيك في الخفية وأبوك الذي يرى في الخفية هو يجازيك”. أما بولس فقد أنشأ الكنائس والمجامع ومؤسسات الصلاة وشرَّع لكهنوت وأقام أسقفيات لرعاية خدمة العباد على غرار المجامع الإغريقية والوثنية، وتفرع منها رهبانيات.
التعامل مع الخطاة.
توجّه المسيح برسالته إلى الخطاة ممّن اقترف الزنا والعاهرات وجامعي الضرائب الظالمين ومنهم متّى كاتب الإنجيل المنسوب له، كما تقرّب من البرص وغيرهم ممّن اعتبروا آنذاك غير “نظيفين” اجتماعياً، داعياً إياهم إلى التوبة ومحبة الله. أما بولس فدعا إلى رجسِهم وطردِهم وعدم التكلّم معهم وعزلهم ففي رسالته إلى كورنتس الأولى 5: 11 يقول” وإنّما كتبت إليكم أن لا يكون لكم علاقة ما مع من يدعى أخاً وهو فاحش أو طماع أو عابد وثن أو شاتم أو سكّير أو خاطف ..” كما حثّ على طردهم.
التعامل مع الفقراء
ضارباً لهم الأمثال، علّم يسوع في إنجيل متّى بأن من يكونوا عن يمين المَلِك ويرثوا المكان المحدّد لهم هم: من أطعموا الجياع وعاودوا المرضى وكسوا العراة، هذه هي الشروط الواجبة لإستحقاق الإرث بحسب المسيح. أما بولس فيعتبر هؤلاء عالة وحمل ثقيل لأن ما يهمّه هو الإنتاجية فيكتب في رسالته إلى تسالونيكي الثانية فصل 3 رقم 10: “لما كُنا عندكم كنّا نوصيكم بهذا، إن كان أحد لا يريد أن يشتغل فلا يأكل” و ينهي كلامه في رقم 12 بقوله “ويأكلوا من خبزهم الخاص”. هذا يخالف أعمال المسيح عندما كسر الخبز ووزّع على الجياع من دون تفرقة ولا تمييز.
الرسالة التحررية للمسيح.
دعا المسيح إلى تحرير الناس من جميع أنواع العبودية أما بولس ففي رسالته إلى افسس يحضّ على دوام العبودية والإلتزام بها فيقول في هذه الرسالة في الفصل 6 رقم 5 : “وانتم أيها العبيد أطيعوا سادتكم البشر بخوف ووجل”. وفي رسالته إلى تيطس الفصل 6 رقم 6 يقول: “وعظ العبيد أن يخضعوا لسادتهم”. ارتكزت الكنيسة على هذه النصوص لتشرِّع على أحقية استعباد السود والهنود وشعوب أمريكا الأوائل.
احتقار بولس للنساء.
اتّصف المسيح بالرحمة والرأفة إن كان مع مريم المجدلية الخاطئة، أم مع مريم أخت مرتا وأخوات اليعازر، ولم يصدهم بل استقبلهم بتفهم ورحمة وتركهم يعبّرون عن أنفسهم. أمّا بولس فيقول في رسالته إلى أهل كورنتس الأولى الفصل 14 رقم 34: ” فلتصمت النساء في الجماعات فإنّه غير مباح لهنّ أن يتكلّمن، بل عليهن أن يخضعن على حسب ما يقوله الناموس أيضا”، هنا لحاجته يستشهد بالناموس الذي قال عنه المسيح لن تزول منه كلمة، وفي كثير من المواضع يعتبر ذبيحة المسيح ودمه وصلبه ناسخة للناموس. ويعيد هذه التوصيات في تيموتاوس الأولى 5:14 وفي افسس 5: 22-24 وفي كولوسي 3:18-19. فلا يكون الأمر صدفة إنّما نابع عن قناعة راسخة.
في انتقائه اللواط من بين المحرمات فقط.
يقول في رسالته إلى روما الفصل الأول رقم 26: “لذلك أسلمهم الله إلى أهواء الفضيحة، فإن إناثهم غيّرن الإستعمال الطبيعي بالذي على خلاف الطبيعة وكذلك الذكور أيضا فإنهم تركوا إستعمال الأنثى الطبيعي”. هذا التحريم مستخرج من سفر لاويين الفصل 18 :22 من الشريعة التي رفضها بولس وما يجدر ذكره انه انتقى اللواط وتناسى ما ورد في الفقرة 11 من تحريم الخنزير وغيره.
لسنا هنا في صدد دراسة لاهوتية مقارنة ولا انتقاد انّما عرض لبعض المسائل التي أدّت الى تكاثر الفرق المسيحية في أول عهدها. وهذه الملاحظات هي من بعض الخلاصات التي قدّمها الغنوصيين وغيرهم وكانت سبب في إختلافهم مع أقرانهم:
في ما تقدّم.
- جزم الغنوصييون وكثير من الفرق بأن الأناجيل ليست بالكتب المنزّلة التي يستطيع الإنسان أن يرتكن عليها للتعبّد واستيضاح وتبيان الحقيقة إن كان بالشكل المخالف للنصوص الموثّقة أو بالمضمون بما تحتوى من تناقضات.
- لاحظ أصحاب القرار من القوى الباسطة النقيضين في نفس الكتاب والعقيدة، فكوّنوا شكل ثالث هو ما نعاهده اليوم من بعض المسيحية وهو مزيج ما بين تعاليم المسيح وبولس والأفكار الفلسفية والوثنية التي كانت سائدة.
- تأتى من جراء ذلك بدع وفرق ألزم أصحاب القرار بإقامة مجامع لدفع هذه وتوطيد عقيدتها. ففي كل مجمع عقد كان هناك إضافات وهي على هذا الحال إلى يومنا هذا، حيث توّج سنة 1869 بمجمع روما الذي اقرّ بعصمة البابا، فأصبح هو القابض على مفاتيح السماء والأرض وهو المحدّد للعقيدة والدين.
4-ريمون ادورد براون (Raymond Edward Brown) 1928-1998 كاهن امريكي وعالم في اللاهوت عين سنة 1972 رئيس الجمعية التوراتية البابوية، التي تنصح وترشد البابا في المسائل الكتابية. واستاذ جامعي في (Union Theological Seminary)
-المسيحية، الدكتور احمد شلبي، مكتبة النهضة المصرية، 2002، ص 1305
– حقوق النشر: الدكتور ميشال الخوري © ٢٠٢١