سياسة الإلغاء
أخذت الصراعات في القرنين الثاني والثالث الميلادي، بنخر جسد الإمبراطورية الرومانية. إن كان بسبب الخلافات الداخلية أو المخاطر الخارجية فارسية شرقاً أم فرنجية غرباً. كما أن تعداد الفرق المسيحية الأولى، دفعها للتعصّب والتناحر ووصل في بعض الأحيان الى حدّ الإغتيال والإقتتال. كلّ هذه الفوضى دفعت بمن تسنّت له فرصة، البطش في أعدائه بالعمل على ذلك بجميع السبل المستطاعة. ومن أولاها من جهة الفرق الدينية، الإتهام بالزندقة والفسوق والخروج عن حدود الدّين، واستعمال الأدوات الدينية من حرم واضطهاد الى الأدوات السياسية من التحالف مع الحكم القائم لتشكيل منظومة يدافع كلّ منهم من خلالها عن نفسه.
إستشعرت الإمبراطورية الرومانية هذه الأخطار فحاولت أولاً إضطهاد المسيحيين بحرق كتبهم والتنكيل بهم. إلاّ أنّ ضعفها لم يمكّنها من الوصول الى غايتها، سعت عندها الى إستمالت وإحتضان هذه المجموعات كما سنرى مع قسطنطين الأول، ثم بعد تحوّل الأمبراطورية الى مسيحية عمدت الى حرق ودثر كلّ ما لم يكن مسيحي.
لماذا لا نعرف الكثير عن معتقدات وعادات الشعوب القديمة؟
اندثرت الكتابات القديمة لعدّة أسباب تقنيّة منها وعقائدية:
المواد المستعملة للكتابة من بردى وجلود الحيوانات كانت عُرضة للتلف، كما أنّ قلّتها أدّت الى إستعمال الطرس وهي كلمة من الطمس، التي تقوم بمحي المكتوب لقلّة المواد التي يمكن الكتابة عليها والكتابة فوقه.
كان لزام إنتظار القرن الرابع عشر بإكتشاف الطباعة لإعادة طبع بعض ما تبقّى من كتب قديمة ومحاولة إنقاذها.
كتب عن هذه الفترة الكثير، سنقوم بطرح بعض النقاط من هذه الحقبة لتبيان السياسة العامة التي كانت متّبعة.
قام اتناز الإسكندري (Athanase d’Alexandrie 298– 373) و الأمبراطور تيودوز الأول (Théodose Ier) بمنع التعامل بكتب الغنوصيين وكلّ ما هو قديم وأمَروا بحرقها. أشاع الفكر المتعصّب والسائد و صانعي القرار، أن هذه الكتب هي كتب سحر وشعوذة، وذلك إمتدادا لأوّل محرقة كان قد قام بها بولس الطرسوسي، الى أن إكتشفت آثارات في نجع حمادي في صعيد مصر سنة 1945 م. والتي تعود للغنوصيين بأنّ هذه الكتب لم تكن تتعاطى الشعوذة ولا السحر. إشتملت تلك المخطوطات على إثنين وخمسين مقالة معظمها غنوصي، كما تضمنّت أيضًا ثلاثة أعمال تنتمي إلى متون هرمس وترجمة جزئية لكتاب الجمهورية لأفلاطون. بيّنت هذه الإكتشافات بأنّ الغنوصيين لم يكونوا بدرجة ومستوى الهرطقة التي اتهموا بها. كان هؤلاء يشكّلون مجموعة من الجماعات كما بيّنا سابقاً، حوت مكتبتهم وبالإضافة الى بعض الكتابات المسيحية المتثنات، كتب فلسفية وتاريخية. وهذا لم يكن ليتسامح به لأنه يشكّل خرق لسياسة دثر وتدمير كلّ ما هو قديم. فالغنوصيين كانوا جماعات إختلفت مع الدّين الأمبراطوري السائد وحاولت التفتيش عن الفهم من خلال إستعمال العقل والفلسفة وغيرها من الأدوات، غير مكتفئة بالكتب المنتقات من السلطات القائمة، التي تبيّن مع التاريخ عقم فرادتها. وفي سنة 391 أمر تيودوز هذا بإغلاق جميع المعابد التي وصفت بالوثنية والهرطوقية. في السنة ذاتها قامت مجموعة من المسيحيين تنفيذاً لأمر تيودوز بإحراق مكتبة الإسكندرية. هذه الحملة كانت القاضية على ” الأسرار الميثرانية” “mithraïsme” كلياً والتي حرمت البشرية من إرث لا يعوّض. لا نعرف في أيامنا، إلّا القليل عن هذه التيارات، من خلال الذي إكتشفه علماء التاريخ والآثار الذين اضطُهدوا في فترات سابقة للقيام بهذه الأبحاث.
أخبر المؤرخ (Ammien Marcellin، 330 –395) أنّه تمّ تفعيل محارق في الساحات العامة لإحراق جميع الكتب الغير مسيحية. متمثّلين بما ذكر عن هذه الظاهرة في أعمال الرسل. تمحورت بعدها الحياة الفكرية حول أسقف المحلّة الذي أصبح الآمر الناهي والفاصل في جميع المواضيع العقائدية والإجتماعية. وبتعدّد الأساقفة تعدّدت الإتجاهات والمحاور.
بعض الأفعال الجرمية في حرق الكتب والمكتبات.
أمر الأمبراطور قسطنطين الثالث سنة 409 بحرق كتب الرياضيات لأنها تساعد في دراسة علم الفلك.
مقتل وحرق إيباتي سنة 415 في الإسكندرية التي كانت تعلّم الرياضيات والفلسفة هو تكملة لهذه الأوامر. هيباتي (ولدت ما بين 350 و370-توفيت 415). أضيف فيما بعد الى لائحة الممنوعات كتب القواعد اللّغوية والحقوق والطب وغيرها، كان قد سبق هذه لعن ترتوليان في سنة 200 الفلاسفة وسامعيهم.
ثيودوريطس (Théodoret de Cyr، 393 – 457 أو 458) أسقف قورش ومؤرخ حياة مار مارون. أحد أهمّ المؤرخين المسيحيين للفترة الزمنية التي عاش فيها. أمر بحرق أكثر من 200 نسخة من (Diatessaron) الإنجيل الرباعي (حوالي 150 – 160 م) وهو أهم جمع توفيقي للأناجيل، حيث دمج فيه تاتيان أناجيل متى ومرقس ولوقا ويوحنا في رواية واحدة.
وكتب ثيودوريطس هذا بفرح ” حقيقةٌ، هدمت معابدهم الى حدّ أنّك لا تعرف مكانها، لأن مواد البناء التي كانت تؤلّفها استعملت لبناء أضرحة للشهداء …. أنظروا مكان أعياد “بانديوس”، “ديازوس” و”ديونيزوس” وأعياد أخرى، نحتفل اليوم بأعياد، بطرس وبولس وتوما! بدل من القيام بإحتفالات ماجنة (التي تبيّن بأنّها لم تكن يوماً ماجنة إنّما تهمة، كما تهمة بولس بالسحر والهرطقة لمعارضيه) نقيم شعائر وتسابيح طاهرة”.
كان الإنجيل الرباعي النّص المعياري المقبول لدى الكنائس السريانية لمدة قرنين، واستشهد به الكتاب السوريون وأشاروا إليه. فقد كتب أفرام السوري تعليقاً عليه، أعيد اكتشافه في 1957 عندما حصل “تشستر بيتي” على مخطوطة من دير قبطي هو دير السورياني في وادي النطرون في مصر (Chester Beatty Syriac MS 709, Dublin)[1] وإكتشف أن المخطوطة تحوي تعليق أفرام ولكنّها ناقصة. ومع ظهور مخطوطات أخرى في أوروبا أصبح 80% تقريبا من الأصل السرياني موجوداً (McCarthy 1994).
حرق مكتبة الإسكندرية التي كانت تحوي ما بين 500 و700 الف مخطوط.
البابا ثيوفيلس (ت. 412) بطريرك الإسكندرية، الكنيسة القبطية، تولّى الكرازة المرقسية من 385 حتى 412. حطّم وحوّل معابد إلى كنائس، ومنهم متحف مكتبة الإسكندرية والسرابيوم (معبد لعبادة سرابيس وفي الوقت نفسه المكتبة الأخت الصغرى لمكتبة الإسكندرية). شجّع عصابات من المتعصبين على تدمير المعابد (ومعها المكتبات الفلسفية والغنوصية) وعلى قتل من اعتبروهم وثنيين. في دراسته عن هذه الحقبة يكتب جيرار دو نيرفال (1808- 1855 Gérard de Nerval ) أن من نتيجة حرق مكتبة الإسكندرية كان مقتل “هيباتي”[2]. نستطيع أن نقول ونعلوا بأن إيباتي هي من أوائل شهداء الفكر الحرّ ومعها دخل العالم في ظلمة التكفير ودياجير القرون الوسطى.
مكتبة القسطنطينية.
أسّس قسطنطين الأوّل بعد تولّيه الحكم مكتبة حوت أكثر من 120.000 مخطوط بالإضافة الى الكتب الأولى المسيحية الدينية. عمد قسطنطين الى ترجمة هذه المخطوطات وإعادة كتابتها بكَتَبَة حِرَفيين. عِدّة حرائق قضت على معظم هذه الكتب أهمّها في سنة 475 حيث إحترق أكثر من 100.000 مخطوط.
آخر حملة لدثر الآثار القديمة كانت سنة 1204 في الحملة الصليبة الرابعة عندما وبشكل ممنهج دثر وحرق كلّ ما كان موجود في القسطنطينية أكان غريباً أو غير معروف من الغُزاة.
ثمانماية سنة بعد “دكّ القسطنطينية“ كتب يوحنا بولس الثاني (Jean-Paul II) في سنة 2001، لأسقف أثينا كريستودول الأول (Christodoulos Ier): “إنّه لمُفجع لمعرفة أن المهاجمين الذين كانوا يبغون توسيع فسحة الممرّ للأراضي المقدّسة إنقلبوا على إخوانهم في الإيمان. لكونهم مسيحيين يفجع الكاثوليك”. في سنة 2004 ردّ عليه كريستودول الأوّل:” كيف نستطيع بعد ثمانية قرون مشاطرة الألم والاشمئزاز.”
أوّل مكتبة أنشأت في أوروبا كانت في إيطاليا في دير فيفاريوم (Vivarium vers 555 ) لمؤسسه كاسيودور (Cassiodore) لم تحوي إلّا على مائة مخطوط قورن مع ما حُرق من آلآف المخطوطات.
حرّم إيزيدور في سفيليا اسبانيا (Isidore de Séville ولد في 570) الكتب الغير مسيحيّة.
البابا غريغوار الكبير (540-604) حرق مكتبة روما المؤسسة من يوليوس قيصر الذي ولد في العام 100 ق.م ومات في سنة 44 ق.م، بعمل تكفيري لدثر الآثار الوثنية وتطهير روما من الملوثات. يروى أن هذا البابا رأى حلم وفيه عناكب تمشي على مقرّه في روما. قام مذعوراً في الليل وإعتبر أنّ هذه العناكب السوداء هي الأفكار الموجودة في كتب الأقدمين، فعمد الى حرق المكتبة مع ما كانت تتضمّنه من مخطوطات وآثار تعود لما قبل التقويم الميلادي.
الكتاب “المسيحي” أصبح الكتاب الأوحد فيما بين 500 و700 وكتابة أي شيء يعتبر تطاول وتعدّي على الكتاب الكامل. كان القارئ أو الحامل أو المتكلّم بكتاب آخر يتّهم بالكفر ويقام الى عزله وقتله وحرقه الخ…
مكتبة الفاتيكان الحالية.
ساهم في توسيعها وتوطيدها عدّة باباوات إبتداء من تأسيسها على يدّ نيقولا الخامس (Nicolas V) في سنة 1450. وأصبحت المؤسسة المعروفة منذ سنة 1475 على يدّ سيكست الرابع (Sixte IV). على القارئ ألاّ يخلط ما بين مكتبة روما التي تعود ليوليوس قيصر والتي احرقت ومكتبة روما الحالية التي تعود لسنة 1450.
عند المسلمين.
لم تكن معاملة المسلمين للكتب القديمة بنفس الحديّة التي اتّبعها المسيحيين.
لم تصل الينا الفلسفة القديمة وبعض المخطوطات إلاّ ما سلم وعلى يدّ المسلمين العرب. أنشأ هارون الرشيد في سنة 832 بيت الحكمة، التي عرفت بمكتبة بغداد وحوت ما إستحصلت عليه من المخطوطات اليونانية والفارسية والهندية وعمدوا الى ترجمتها الى العربية، هذه الترجمة أوصلت هذا الإرث الى الغرب. في معركة بغداد سنة 1258 دخل هولوكو خان ابن جنكيز خان بغداد وحرق مكتبتها.
تعامل الكنيسة في الحديث مع المكتشفات الأخرى.
بالرغم من ما حصل في القديم بقيت الديناميكية بحرق ودثر كل ما هو غير مسيحي قائمة حتى في القرن السادس عشر عندما اكتشفت أميركا واكتشف معها مخطوطات قديمة لشعوب المايا. ففي سنة 1528م. أمر الأسقف زومّراغا (Zumarraga) بحرق جميع مخطوطات المايا. الكشوفات الأثرية الحديثة أعادت وجود المايا كحضارة الى الألفية الثالثة ق م. والدراسات الأثرية الحديثة أثبتت وجود مومياء تعود لأكثر من 8500 سنة ق.م. كلّ هذه الكنوز القديمة دُثِر وللأسف.
عملت القوى المتسلّطة الى إزدراء كلّ ما هو مختلف والى طمس الآثار المختلفة. كانت العادة في الجاهلية، أنّه ما إن ينتصر متسلّط على غيره يقوم بحرق ودثر كل معلم أثري للخاسر. وهذا ما قامت به السلطات الدينية منذ أكثر من ألفي سنة، بحرق وطمس ومنع كل ما خالفها، تحت ذريعة معارضته المشروع الإلهي الذي تحمله، مع ما تدّعي تمثيله من حقائق ومُثُل عليا.
كيف يتعامل الباحث مع هذا التاريخ؟
لو لم يتحرك العلم والفكر لبقينا على ما أجبر عليه غاليلي بأنّ الأرض مسطّحة. جميع الأبحاث جرت خارج نطاق الإطار الديني الغربي الذي لم يتوانى على إضطهادها معتبراً نفسه المرجع في الأكوار الدينية والدنيوية!
لم يتبقّ للباحث إلاّ القليل من المنقول، ساعدت الإكتشافات الأثرية الحديثة على توضيح بعض المواضيع التي لم تكن ترتكن إلّا على رواية واحدة، ولكثرة تردادها إقتنع القاسي والدّاني بمضمونها ودخلت في المفهوم اللاواعي كحرق بولس لكتب الغنوصيين السحرة المردة.
عندما نقرأ بأن بولس حرق كتب لمجموعات قيل عنها وثنية وتحت ذريعة بأنّها كتب سحر، لا ولم يتحرّك لا الضمير ولا الوجدان ولا الفكر حتى للتساؤل حول أحقيّة هذه الروايات. وخاصة بعد أن إكتشف علم الآثار كما في نجع حمادي وغيرها بدعة تهمة السحر.
المعرفة الحديثة.
لم يتواجد بين أيدي الباحثين إلاّ الكتاب الديني المعروف بالتوراة، ومنع كل بحث يخرج عن إطار أو من مضمون ما قدّمه الكتاب من إيحاءات علمية. الى بدايات القرن العشرين كان الفكر السائد والمعتمد على هذه الكتب التي تجزم بأنّ التاريخ عامة من بَشري لا يتجاوز ال4000 سنة قبل الميلاد. كما أن تاريخ الأرض لا يتجاوز 5000 سنة ق.م، كما أنّ العلم والفكر لم يُحِط إلّا بما كان حولنا من درب التبانة التي كانت تعتبر إجمالية العالم المحسوس.
لم يتوانى أسقف باريس (Mgr. Affre) بإسم الكنيسة سنة 1820 من التصريح: ” بأنه يقع تحت الحرم الكنسي كلّ من يؤكّد بأن عمر الأرض يتجاوز 6820 سنة. إذ أنّ الكتاب يفيد بأن آدم ولد 4000 سنة قبل الميلاد وأن الأرض كوّنت من ألف سنة قبل آدم”. ومن هنا “جميع علماء الفلك الذين قدّموا عمر الأرض لأكثر من هذا هم أعداء الدّين”.
وقع في الحديث أيضاً، Pierre Teilhard de Chardin بيير تيلار دي شاردان (1أيار/مايو 1881 – 10 أبريل 1955) وهو فيلسوف وكاهن يسوعي وجيولوجي فرنسي والذي تخصّص بعلم حفريات ما قبل التاريخ، وقع تحت سلطان الحرم وألزم الإعتكاف في دير في أميركا الى حين وفاته، لمخالفته المفهوم العلمي المقدّم من الكنيسة.
لم تتغيّر وللأسف مقاربة هذه المواضيع إلاّ بعد تطوّر علم التاريخ والآثار.
- حقيقة الغنوصيين والمسيحية الأولى مع إكتشافات نجع حمادي 1945 م.
- لم تتخلّى الكنائس عن جزمها بعمر الأرض والكون الى أن إكتشفت المواد
المشعّة (Radio activity) وإستعمالها للتقويم الزمني في أواسط القرن العشرين.
- سقوط كتب الأديان كمرجع حسّي أو علمي والإعتماد على الدراسات التاريخية والأثرية فقط لتبيان الحقائق.
هذه المقدّمة نثرة من غابة شائكة مرّت بها البشرية لمدّة الفي سنة والبعض لم يخرج بعد منها…..
[1] السير ألفرد تشستر بيتي (1875 – 1968 م) هو رجل أعمال ومليونير. ولد في الولايات المتحدة وأخذ الجنسية البريطانية عام 1933م. كان يحب جمع المخطوطات وشرائها وخاصة المخطوطات الإسلامية.
[2] (d’Alejandro Amenábar)
ولد سنة 1970 في التشيلي تحت حكم بينوشي من اب شيلي وام اسبانية. هاجر اهله بعد الانقلاب الذي اوصل بينوشيه الى الحكم.
“، اخرج فيلم “اغورا”، الذي يروي حياة وقتل إيباتي
– حقوق النشر: الدكتور ميشال الخوري © ٢٠٢١