في تاريخ الشركاء والرفقاء

في تاريخ الشركاء والرفقاء

في هيكلية الشراكات.

عرفت شمال أوروبا في القرون الوسطى وبالتزامن مع ظهور الشركاء، تجمعات تشابهت مع تجمعات الشركاء وهي تجمع المدن التي تآزرت لرد الاعداء ولتسهيل التجارة فيما بينها وإحتكارها عرفت ب “هانس” (Hanses) كما عرفت أيضا تجمعات حرفيين سميت ب “خيلد” (Guildes).

كانت تقسم المهن في هذه التجمعات الى ثلاثة اقسام:

1- المهن المحلّفة، التي تجمع مهنيين وحرفيين يحلفون بالتزام وإحترام مهنهم وأعمالهم وبالمحافظة عليها. كان يقوم القيمون على هذه الجمعيات بمراقبة الأعمال المنتهية ومحاسبة من يخل بقيم مهنته أو يتساهل بعمله. إدارة هذه المؤسسات كانت مستقلة وأفرادها كانوا متساوين فيما بينهم بالحقوق والواجبات.  

2- المهن المنظمة، تجمع مهنيين وحرفيين يعملون تحت رعاية السلطات السائدة من كنسية وملكية.

3- المهن التي يستطيع الجميع ان يقوموا بها من دون إحتراف ولا تدريب. أعمال زراعية وحمالة وخدمة الخ.  

المهن من الفئة الاولى والثانية كانت تهتم ب:

  • ادارة العمل من تدريب، وتحديد الرواتب، طرق الإرتباط والتعاقد، الخ.
  • تحديد الإنتاج من مواصفات ومميزات الخ.
  • التسويق من تحديد المعايير والمقاييس وطرق الدفع الخ.

إحتلت الشراكات الكبيرة والميسورة قوة إجتماعية وسياسية وأصبحت شريكة في قهر الفقراء وإستغلال الشعوب متقاسمة الأرباح مع السلطات الظالمة التي تربعت على قلوب المقهورين الى أن حلتها الثورات في القرن الثامن عشر.

في نشأة الرفقاء.

أطلق اسم رفقاء على أفراد بعض الجمعيات التعاضدية التى أنشئت في سبيل توفير التقارب بين أهل المهنة لتبادل المعرفة والخبرات وتشكيل هيكل إغاثة وتعاون فيما بينهم. كانوا يتعاونون لتأمين العمل فيما بينهم، واذا مرض أحدهم عاودوه واكرموه، واذا توفي أحدهم حضنوا زوجته وأولاده الخ.

لم يكن يقبل فيما بينهم إلا من قضى على الأقل خمس سنوات يعمل على هندسة عمل حرفي. حلّت الثورة الفرنسية أهل الشراكة والإحتكار إلاَ أن الرفقاء داوموا على أعمالهم بعد حل الأولى، لانهم كانوا خارج نطاق الإحتقار والإستبداد العملي.

لا يعرف بالتحديد كيفية وتاريخ نشوء هذه الجمعيات إلا أن افرادها حاولوا أن يعطوا لتجمعهم مرجعية كتابية. أكان هذا مبني على إعتقاد أم على خوف من السلطات الكنسية الحاكمة، أم وكما فسر علم الإجتماع الحديث، محاولة لإعطاء تجمعهم جذوراً تاريخية تضفي عليهم هالة ومصداقية كانت تبحث عنها الجموع آنذاك.

كتب أن مؤسسي الرفقاء ثلاثة هم المعلم “يعقوب” ناحت الحجر، والمعلم “سوبيز” المعلم النجار اللذين كانا يساعدان الملك سليمان مهندس الهيكل. لا يوجد أي إثبات تاريخي لهذه القصة في توارث جمعية الرفقاء.

كما كان معهوداً إعتمدت كل جمعية شفيعاً وأصولاً، لم يكن لهذا الخيار تأثير مباشر على التبادل والعمل إنما كانت تعطي شخصية صورية ممثلة وجامعة.

 صوّرت بعض القصص أن “يعقوب” و”سوبيز” معلمان من أصول رهبانية ساعدوا العمال في القرون الوسطى وحاولوا جمعهم في جمعيات تعاضدية.

بالتاكيد كان لتجمعات المدن “هانس” والعمال “خيلد” تأثير في إنشاء جمعيات الرفقاء. ما هو متأكد منه أنه ما بين القرن الثاني عشر والثالث عشر كانت جمعيات الرفقاء تتنامى وتفعل خاصة في بناء الهياكل المسماة كاتدرائيات. عند التحدث عن الكاتدرائيات ورمزيتها سيتبين بوضوح فكرة وأهمية بناء الهيكل لمشيّديها، الذين برز منهم جذر من جذور البنائين الأحرار.

 بالرغم من أن عمل الرفقاء كان يقتصر على بناء الهياكل والجسور، إلا أن طريقة عملهم وتسترهم على إجتماعاتهم، التي كان هدفها الأول تبادل الخبرات وحفظ بعض الحرف دون الإنحراف الى الإحتكار والإستبداد الذي تفشى مع تجمعات الشركاء، صبَّ عليهم غضب المحتكرين والمستغلين والسلطات الكنسية في ذلك الوقت، وهكذا نجد في مجمع روان  (Rouen) سنة 1189 كما في مجمع آفنيون (Avignon) سنة 1326 امراً بحرم كل من يجتمع بطريقة سرية ويحلف على أن يحفظ سر أخوّته وأخوانه ويسعى لإغاثتهم. مع التنويه أن هذه التجمعات ولدت مقابل تجمعات الشركاء الذين إستبدوا وطغوا، وبالرغم من هذا لم تصدر السلطات الكنسية في ذلك الوقت أي حرم ولا تأنيب لشركات المستغلين والمحتكرين الذين أفسدوا وعلى مدى قرون وذلك لشراكتها معهم بالأرباح والإحتكار والتسلّط.

 كتب إتيان بوالو (Etienne Boileau) في سنة 1258 إحصائية تذكر 1268 عامل كانوا من العمال المسافرين، وبالمسافرين عرف أهل الرفقة لإنتقالهم من قرية الى أخرى ومن مدينة الى مدينة لإكمال خبرتهم وعلمهم.

إعتمد أهل الرفقة علامات ورموزاً للتعارف فيما بينهم خوفا من إندساس المستغلين أو المخبرين، وهكذا نجد منذ القرن الثاني عشر تماثيل وأصرحة ولوحات فنية تحمل رموز أهل الرفقة.   

ففي كاتدرائية شارتر(Chartres) في فرنسا التي بنيت على أرض كان قد سبق بناء عدة هياكل عليها، البناء الذي نعرفه اليوم هو من القرن الثالث عشر. فاحدى الخلفيات تمثل معلم مع تلميذه يستعملان مكعبات اللعب المسماة “زهر” وعليها رموز اهل الرفقة. في فالنسيان (Valenciennes) عامودي “بوعز” و”ياكين”، في سان دنيز (Saint Denis) المسيح يؤمئ بعلامة أهل الرفقة، كما في ستراسبورغ (Strasbourg) تمثيل لموت حيرام. الرموز المصورة على جنبات وصدر الكاتدرائيات لا تحصى من كثرتها، هكذا ترك هؤلاء البنائون شواهد على أهمية بناء الهيكل عندهم، إنما الهيكل على شكله ونهايته الرمزية التي تتعدى السطحية الدينية في التعبير. بعض الكتاب الذين بنوا على الظاهر وارتكنوا على ما روي عن المؤسسين الثلاثة المعلم “يعقوب” و”سوبيز” والملك “سليمان”، توهموا بأن الهيكل هو هيكل سليمان وبذلك أسندوا جذور أهل الرفقة الى الصهيونية التي لم تكن تُعرف في القرون الوسطى (تجد في مركز الدراسات، دراسة خاصة عن الماسونية والصهيونية). الصهيونية حركة نشأت في أواخر القرن التاسع عشر. فلا رابط ما بين أهل الرفقة الذين ظهرت جذورهم في القرن الثاني عشر وما بين الصهيونية التي ظهرت في القرن التاسع عشر إلا من اراد الأصطياد في الماء العكر.

كان الرفقاء يتنقلون من مدينة الى أخرى، وعند وصولهم الى مدينة كانوا يلجؤن الى نزل كانت تديره من سمي ب “الام” حيث يجدون الدفء والأمان قبل أن يتلقاهم أحد المعلمين.

كما في جميع التجمعات الإنسانية التى تخضع لنواميس علم الإجتماع، ظهر بين هذه الجمعيات نزاعات وخصومات مبنية على فهم سطحي في بعض الأحيان للمعاني الرمزية. فمنهم من أخذها على أنّها نهائية ومنهم من نظر اليها على أنّها تتطور، ومنهم من نظر اليها على أنّها مفتاح من مفاتيح الغيب، فنشأ من هذا تباعد وتنازع وصل الى حد القطيعة والفرقة. نشأ من هذه النزاعات جمعيات رديفة، زادت على علمها المهني والحرفي دراسات جانبية للأمور المختلف عليها أو الموحاة، من العمل والحرف وهي الجمعيات الميتافيزيقية والروحية ومنها جمعية وردة الصليب (Rose-croix) والمارتينية (Martiniste) والخيميائية (Alchimiste) الخ.

لكي يتسنى لباحث أن يحيط بخطوات التطور الفكري والبشري عليه أن يعي المطبات والزلات التي وقع فيها سابقونا. فهذه تجارب تبين لنا الكثيرمن حقائق النفس البشرية.  

 – حقوق النشر: الدكتور ميشال الخوري  © ٢٠٢١

error: Content is protected !!