كلوڤيس الأول
هذه المقدّمة القصيرة هدفها تسطير بداية حكم الغرب الذي جمع ما بين الإكليروس والإقطاع.
لم تُفْرَض المسيحية رسمياً حتى القرن الرابع، إبتداءً من عهد قسطنطين الأوّل الذي تحوّل إلى المسيحية، الى عهد الإمبراطور ثيودوسيوس الأول، الذي أسّس المسيحية كدين للدولة عام 381 مع مرسوم تيسالونيكي.
تمّ إصدار مرسوم تيسالونيكي من قبل الإمبراطور الروماني ثيودوسيوس الأول في 27 فبراير 380. الذي جعل المسيحية الديانة الشرعية الوحيدة للإمبراطورية الرومانية وحرّم كل الطوائف المسمّاة “الوثنية”.
الغزوات وسقوط الإمبراطورية الرومانية سمحت بتركيبة دائمة للممالك البربرية (كل ما لم يكن روماني) في الإمبراطورية وخاصّة في بلاد الغال (فرنسا). كان يملك الملوك البربريون أصلًا مدنياً وروحياً، ممّا يجعلهم أمراء حرب و أصحاب سلطة روحية. عندما كان يتحوّل زعيم “بربري” إلى المسيحية ليحاول الإقتراب من السكان الأصليين كان يختار الآريوسية، التي تسمح للملك بالتشبّه بالمسيح كرجل خارق ويصبح قائد الكنيسة، وبالتالي يحافظ على قوّته المدنية والدينية.
كلوفيس الأول
كلوفيس الأولClovis I،) 466 – 511) كان أوّل ملك للفرنكيين و يعتبر كلوفيس الأول مؤسّس فرنسا، وحّدَ جميع القبائل تحت سلطته. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، لم يتردّد كلوفيس في إزالة كل العقبات: إغتال جميع رؤساء المناطق المجاورة من “ساليّن” و”رينش” المجاورتين، ولضمان أن أبنائه وحدهم سيرثون مملكته، قام بقتل كل من رفاقه السابقين وحتى بعض أفراد عائلته على مثال ما فعل قسطنطين.
ويصف المؤرّخون كلوفيس بأنه غليظ القلب، سفّاك للدماء، شهواني نهم شره، في جمع الذهب. وأنّه كان يسخر من فكرة وجود ثلاثة أشخاص في إله واحد، وبتصوير الله كأنّه إنسان.
كان الملك يكافئ القادة العسكريّن على ما يؤدون له من خدمات في الإدارة والحرب بأن يهبهم قرى يكادون يكونون فيها سادة مستقلّين، وكانت التجارة لا تزال نشيطة، ولكنّ كان يقف في سبيلها عدم ثبات النقد، وكثرة اللصوص وقطّاع الطرق، وإرتفاع الضرائب الإقطاعية. وكان القحط والوباء يحاربان بنجاح غريزة التكاثر الآدمية.
سعى أسقف ريمس، وهو القديس المستقبلي ريمي، إلى إستجلاب حماية قوية لشعبه. تواصل مع كلوفيس مذ تسلّمه مهامه. وبفضل حنكته وربما بسبب السلطة التي يتمتّع بها على الشعب، عمل كلوفيس الى تعيّنه مستشار له. تزوّج كلوفيس من كلوتيلد، وهي أميرة مسيحية ذات نسب عالي، ابنة ملك البورغونديين. وفقاً للقصة التي رواها جريجوري أوف تورز (غريغوري أوف تورز، ولد في 538 أو 539 وتوفي في تورز في 594، وكان أسقف لهذه المدينة، وهو مؤرّخ الكنيسة والفرنجة)، إنّه و في السنة الخامسة عشرة من حكم كلوفيس، وهذا يعني في عام 496، و في معركة تولبياك التي وقعت ضدّ ألالمان، وبعد تعثّره وكان على وشك أن يهزم، صلّى كلوفيس إلى المسيح ووعده بأنه سيتحوّل الى المسيحية دين زوجته كلوتيلد اذا نصره في معركته هذه، وانتصر على أعدائه وإعتنق المسيحية. يعيد جريجوري هذا دينامكية القصة التي رويت عن قسطنطين عندما تعثّر في معركة ضدّ أعدائه وطلب من جنده رفع “الكريسم”، معتبرين أن والدته هيلانة كان لها الفضل في هذا التحوّل وفي نفس السِياق تتجدّد القصة مع كلوفيس بإعتماد معبود زوجته ملهمة إيّاه طريق الإنتصار والفرج. مقدّماً دور المرأة المتديّنة والمسيحية في تقدّم الدّين الجديد على مثال مريم العذراء.
تأكيداً على القصة الخرافية التي أحاطت بكلوفيس لأسباب سياسية، ينقل عن كلوفيس وهذا إثبات لعدم ايمانه بالمفهوم المسيحي ولا العقائدي، قوله عن صلب المسيح :”لو كنتُ هناك مع رجالي، لكنتُ انتقمتُ لهذه الإهانة”. هذا المؤرّخ الذي اعتمدت عليه الكنيسة وتبيّن سذاجته وضعف حجّته، إذ كتب عن كلوفيس بعد اكثر من مائة سنة، وتبيّن أن هذه القصص كانت تستعمل كل ما كان هناك حاجة لتأجيج إيمان العامة.
وممّا روى هذا المؤرّخ أنّه وفي عيد الميلاد (تاريخ أسطوري) من سنة بين 496 و 511، إعتمد كلوفيس هذا مع 3000 من جنوده، ولتعظيم الحدث أَخبر بأن حمامة احضرت الميرون من السماء الذي به وسم كلوفيس. للناظر الى اللوحة المؤرخة لكلوفيس هذا في عماده سيجد حمامة بيضاء ترفرف فوق رأسه وحاملة الميرون المُحضَر من السماء، وأكّد هذا الأسقف أنهم لا زالوا يمتلكون القدر الذي أحضرته الحمامة من السماء في مخازن الكنيسة. وهكذا فإن معمودية كلوفيس تمثّل بداية العلاقة بين الإكليروس والملكية الفرنجة. ومنذ هذه المعمودية حكم ملوك فرنسا بلقب “الأبن الأكبر والبار للكنيسة الكاثوليكية” وبإسم الله.. يعتقد البعض بأن هذه أساطير الأوّلين، لربما. إلّا أنّ البابا يوحنا بولس الثاني، و في العيد 1500 لعمادة كلوفيس، قام بزيارة حج الى كنيسة ريمس في سنة 1996، مجدّداً العهد ومتأسفاً على زوال تلك الحقبة ومتسائلاً: “فرنسا ماذا فعلت بمعموديتك؟”.
Laurent Theis, « France, qu’as-tu fait de ton Baptême ? », L’Histoire, no 331, mai 2008, p. 82-85.
لم يكن لإعتناق المسيحية أثر في هؤلاء الملوك على الإطلاق، فقد بدت المسيحية لهم كأنّها مجرّد وسيلة. وكان الإغتيال، وقتل الآباء، والأخوة، والتعذيب، وبتر الأعضاء، والغدر، والزنى، ومضاجعة المحارم، كان هذا كلّه هو الوسيلة التي يخففون بها ملل الحكم.
في غمار هذه الفوضى لم يكد يكون للتعليم وجود، كانت معرفة القراءة والكتابة ترفاً لا يتمتع به إلاّ رجال الدين، أمّا العلوم الطبيعية فقد انمحت أو كادت. وبقى الطب، لأننا نقرأ عن وجود أطباء في حاشية الملوك، أمّا بين الشعب فقد كان السحر والصلاة في نظرهم خيراً من الدواء. وقد ندّد جريجوري أسقف تور (538؟-594) بمن يستخدمون الأدوية بدل الصلوات في علاج المرضى، وقال: إنّ هذا إثم يعذّبهم عليه الله. ولمّا مرض هو أرسل بدعوة طبيباً، ولكنه سرعان ما صرفه لأنّه لم ينفعه بشيء، ثم شرب قدحاً من الماء ممزوجاً بتراب جيء به من قبر القديس مارتن وادّعى الشفاء وطلب بالتمثّل به. وممّا قاله هذا المؤرّخ الموثّق: ” يؤكّد أن الأفاعي سقطت من السماء في عام 587، وأنّ قرية قد اختفت فجأة بجميع مبانيها وسكّانها. وهو يشهِّر بكلّ شيء في أي إنسان لا يؤمن بالله أو يعمل ما يضرّ بالكنيسة، ولكنّه يقبل ما يرتكبه أبناء الكنيسة المؤمنون من أعمال وحشية، وغدر، وخيانة، وفساد خلقي، ولا يجد في هذا ما تشمئزّ منه نفسه. وهو صريح في تحيّزه وعدم نزاهته”.
لتأكيد زعامته المدنية والروحية جمع كلوفيس مجمع أورليانز في تموز من سنة 511 وكان هذا دستور حكم العالم المسيحي لأكثر من ألف سنة مؤكداً الشراكة بين السلطات الإقطاعية والكنيسة..
من بين واحد وثلاثين بنداً أنتجها المجلس نُسَطِّر:
- تم تعيين كلوفيس “Rex Gloriosissimus، fils de la Sainte Église catholique “،”الأبن الأكبر والبار للكنيسة الكاثوليكية” من قبل جميع الأساقفة الحاضرين.
- تعفى الأراضي الملكية الممنوحة للكنيسة من الضريبة لمساعدة رجال الدين بالقيام بحاجات، الفقراء والسجناء.
هذه المنظومة المستحدثة من تضامن وتلاحم بين رجال الدين والملكية ظل سائداً الى آخر القرن الثامن عشر. من انتقد الملك أو الإقطاع اعتبر زنديق فاسق ومخالف لشرع الله وحكم عليه بالسجن والقتل.
عمادة كلوفيس.
تظهر في اللّوحة الحمامة حاملة الميرون المُحْضر من السماء فوق رأس كلوفيس، الذي إستذكره وتساءل فيه متأسفاً يوحنا بولس الثاني:” فرنسا أين أنتِ من هذا العماد” في سنة 1996، مستذكراً بحسرة الزمن الغابر الذي حكموا فيه الغرب بشراكة مع الإقطاع.
– حقوق النشر: الدكتور ميشال الخوري © ٢٠٢١