مقدمة في الفكر الحرّ
الفكر الحرّ هو تعبير يشير بشكل مثالي إلى طريقة التفكير والعمل التي لا ترتكز إلى الفرضيات الدينية أو الفلسفية أو الإيديولوجية أو السياسية الموروثة من مجتمع، لكنها تعتمد بشكل أساسي على التجارب الوجودية الخاصة للمفكّر الحرّ، والمنطق والعقل (العقلانية والتجريبية لتشكيل الرأي، والشكّ لتجنّب أي شطح) بمقارنتها مع مكتسبات الشعوب الأخرى تاريخياً، يسهل الوصول الى درجة من التوازن الداخلي والخارجي تتوافق ودرجات سعادته وإستقراره وسُكناه.
يُتخيّل في عقول العامة روابط وثيقة بين كلمة “التفكير الحرّ” ومصطلحات “الإلحاد” و “الزنديق” و “المتشككين” و “العقلانية” و “الإنسانية” و “الإنسانية العلمانية”، لكن هذه المصطلحات ليست مترادفة.
يستطيع أن يكون المفكّر الحرّ مؤمناً بعد أن يتوصّل الى هذه القناعة بإختباره الشخصي، بعيداً عن التأثيرات الموروثة إجتماعياً وتاريخياً، كما يمكن أن يكون من “المتريّثين” الذين لا ينفون ولا يثبّتون تدخّل قوى غيبية في دقائق ويوميّات المرء.
لا يمكن بحسب رأي المفكّرين الأحرار، أن يكونوا مجرّد نمط لمعارضة العقيدة أو المبادئ، بل منهجيتهم تعني ضُمناً القدرة على التدقيق الصادق في أفكارهم المسبقة والقوالب النمطية الخاصة بهم عن طريق الإستبطان، لأنّ التمسّك المنهجي والإرتكان الأعمى لأيديولوجية، يمنع الفرد من التعبير بحريّة ويبعده عن الفكر الحرّ.
المفكّر الحرّ هو الذي يترعرع ضمن بيئته بسعادة، فلا تتضمّن منهجيته العِداء لمن يحيط به أكانوا مؤمنين أو ملحدين أو مشكّكين أو عقائديين سياسيين أو إجتماعيين وإلّا فَقَدَ غاية ومبغى منهجه.
تُلصق كما حصل مع سقراط وبيتاغورس وغيرهم عدّة تُهَم ومنها الخروج عن المعهود، معادات الدّين القائم، محاربة السلطات الحاكمة، بثّ التشرّد الفكري في المجتمع، الإنحلال الأخلاقي، الخ… لعدم فهم حقيقة مسعى المفكّر الحرّ، شاهد على ذلك ما حصل في 17 فبراير 1600، حيث تمّ تعذيب الراهب الدومينيكي السابق “جيوردانو برونو” وقتله (كما غيره الكثيرين) من قبل محاكم التفتيش بتهمة الإبتداع، لخروجه عن المألوف فكرياً وعلميا،ً تبيّن لاحقاً ومع الوقت صحّة أقواله.
من اليونان القديمة إلى الصين إلى بلاد فارس وبلاد ما بين النهرين وبالتأكيد الى ما قبل ذلك، تواجد على وجه الكرة الأرضية وفي مختلف العصور والحضارات، رجال ونساء حاولوا الخروج من القيود المفروضة إجتماعياً وسياسياً وتاريخياً، للوصول الى فهم شخصي يتناسب ونشأتهم وترعرعهم وسعادتهم. إكتشافات دير المدينة التي تعود للألفية الثانية قبل الميلاد أثبتت وجود رجال ونساء من هذه الطبقات (في الموقع دراسة عن هذه الحقبة).
منهجية المفكّر الحرّ.
المفكّر الحرّ يقبل المنهج العلمي الذي يقدّم دليلاً يتأكد بالمنطق ويسمح للإستنساخ بالتجربة، لا يوجد لديه نتيجة مطلقة أو غير قابلة للتغيير بل يمكن تعديلها عند إضافة عناصر وإكتشافات جديدة.
فلسفيًا، هذا يشبه البحث عن الحقيقة بالعلم، عن الحُسن بالأخلاق وعن الجمال بالفن.
هذا الأسلوب لا ينكر الحدس، والشعور وفكرة الإيمان كمحركات للفنون الإبداعية والثقافات، ولكن يفصلهم بدقة عن الوقائع المادية، الفيزيائية، الكيميائية والبيولوجية والمنطق الرياضي، التي من جانبهم قابلين للتحقيق والإستنساخ. هذا الفصل الفلسفي القائم على العقل يساهم أيضًا في تأسيس فكرة العلمانية.
بالنسبة للمفكّر الحرّ، لا توجد سلطة عادلة يمكن أن تعارض العقل. هذا هو السبب في رفضه لجميع المعتقدات المفروضة وتَفرِض من ورائها سلطات مدنيّة.
الماسون قسم من هذه المسيرة التي تجلّت بقوّة قبل وبعد ثورة التنوير.
سنعرض بعض الديناميكيات والتي ولو بأشكال غير جليّة ظاهرياً، ساهمت في بناء القواعد التي نرتكز عليها في أيّامنا هذه. العبرة ليست بالكميّة بل بالمنهجية المعتمدة. عندما تجرّأ أحدهم في اليونان القديمة على القول بأنّ الشمس المعتبرة إله، هي حجر ناري ليس إلّا، رسّخ في أساسات الفكر الحرّ.
كما يعبّر فرنسيسكو غويا في لوحته هذه:
سُبات العقل يولد أوهام.
– حقوق النشر: الدكتور ميشال الخوري © ٢٠٢١