مقدمة في الفكر الماسوني
تُعرِّف الماسونية نفسها على أنّها مدرسة تكريسية، رمزية، أخوية وفلسفية.
سنبيّن كل من هذه التعاريف بشكل مبدئي أوّلاً لكيّ يتثنّى للقارئ بمقاربة بعض المفاهيم الماسونية ثمّ بشكل مفصّل في الدراسات اللاّحقة، كما سنقارب مفاصل من تاريخ تطوّر الفكر البشري. الفكر والفلسفة التي حملتها الماسونية لم تكن بغريبة في كثير من الأوجه مع ما خالج وجدان البشرية من حولها. على المرء ألّا يظن أنّ هناك أُناس يتفوّقون على الآخرين بقيم وراثية أو بإلهامات غيبية، الفروقات بين البشر لا تأتي إلّا بالكسب الإيجابي، فكما إكتسب الأخوة الماسون والباحثين من قبلنا قدرات وقوة فكرية، كذلك و في كل زمان ومكان يستطيع كل فرد إذا ما توفّرت له الحيثيّات أن يعطي ويصل الى ما وصل ويصل إليه أقرانه وأسلافه.
من هنا تُعتبر الماسونية نفسها حاملة لإرث فكري وإجتماعي وإنساني تطوّر على مدى الأزمنة مع وعلى مقدار تطوّر الفكر البشري. فمن هنا لا يتفوّق المرء على أقرانه بقيمة معرفية بل بقيمة إنسانية. المعرفة عنصر أساسي في تدعيم الفهم والإستيضاح العقلي إلّا أنّها لن تجزي بالفائدة المرجوّة إذا لم تقترن بزيادة القيم الإنسانية.هذه المنهجية التي اتّبعتها الماسونية على مدى أزمنة طويلة بدأت تُطرَح في أيّامنا من قبل علماء النفس والإجتماع الذين بدأوا يفرّقون ما بين الكسب العلمي المجرّد وتفاعلاته مع تطوّر الإنسانية. فالعلم والمعرفة نعمة بتجانسهم مع الترقّي الإنساني ونقمة عند خروجهم عن خدمة الإنسان والإنسانية أوّلاً.
نفهم من هذه المقدّمة أنّ الماسونية لا تبحث بالرمزية والفلسفة فقط للبحث العقلي والعلمي إنّما لتسخّر هذه في تحسين الحياة الإجتماعية وإعطاء الفرد حقّه من بُعده الإنساني والوجداني.
الإنسان بتركيبته الأولى هو هو على مدار الأزمنة والتاريخ، تتغيّر الظروف التي ينشأ ويترعرع فيها إلاّ أنّ كثير من متطلباته الأساسية هي ذاتها. فإهتمامه بأموره الأساسية المدعّمة لإستمرار الحياة هي نفسها من ضرورة المأكل والمشرب والتكاثر والسعي الى المسكن الآمن والسعادة الخ… من هنا يثبّت التاريخ بأن كثير من أمراض الإنسانية التي واجهت أسلافنا نواجهها بأدوات مختلفة إنّما بدينامكية متشابهة. من مكوّنات الإنسان المكوَّن الإجتماعي، هذا يضيف على تكوين كلّ مرء طبقات تتأثر بالبيئة التي تكوّن وترعرع فيها.
هذه الدينامكية لا تخلو من آفات تفتك بالإنسان كالتي تصيب كل مكونات الطبيعة من نبات وحيوان. إذا خالجت الغيرة وحب السلطة والتسلّط والطمع الخ.. من سبقنا فهذه أيضاً تصيبنا نحن أيضاً وعلينا أن نعالجها بوجدانية. لم يفرّ من هذا القدر لا رجال فلسفة ولا إجتماع ولا دين، فالتاريخ مفعم بما سقطت به الإنسانية من قبلنا في هذا الإدراك. إنّ العمل الدؤوب واليومي على مِثال الزارع بحقله هو الكفيل بتقليل الخسائر والإبتعاد عن الجنح.
بما أنّ البشرية بجميع مكوّناتها لم تسلم من هذه الآفات فهل سلمت الماسونية من هذه الآفات؟ بالتأكيد لا..
كما دخلت هذه الآفات مجتمعات بدائية كانت أم متطوّرة كما التيارات الفلسفية والديانات جَمعاء وقسّمتها شِيَع وطوائف واتّهم كلٌ الآخر بالخروج عن الطريق المستقيم واستصدر بحقّه الحرمانات والتكفير، لم تَخلُ الماسونية التي تتشكّل من أفراد هذه المجتمعات من هذه الآفات.
من هنا نجد تجمّعات ماسونية مختلفة تدّعي كل منها إمتلاك الإرث وإمتلاك الحقّ والأحقية الخ… مع العلم أن المعرفة ليست حِكراً على أحد ولا تتواجد بين يدي أحد فهي كالهواء والنور متوّفرة للجميع. لا يظنّن أحد أنّ هذه خروقات وضعفات في جسم الماسونية، نستذكر هنا أقوال المسيح للكهنة أمام المتّهمة بمثل هذه الذنوب:”من منكم بلا خطيئة (آفة من مثلها) فليرجُمها”.
الباحث سيجد أنّ هناك تجمعات ماسونية أيكوسية وأنجليزية وأميركية وفرنسية وإيطالية الخ… وكلّ فرد من أفرادها يدّعي ما يدّعي، الحقيقة هي أنّ الماسونية والفكر الماسوني هو هو واحد، لَتجده متفرقاً عند كل من هذه المكونات. أمّا ما يفرّق هذه التجمّعات، هو ما فرّق الديانات والفلسفات من قبلها. الفكر الماسوني ليس حكراً على جمعية أو فئة، ولا على تجمّع دون غيره. سمّي هذا النهج والفكر بالماسوني لظروف سنبيّنها، إلّا أنّه لَكان يسمّى بمسمّيات أخرى كتجمّع الأحرار، أو المفكّرين الأحرار، الخ.
المسمّى ليس إلّا نعت خارجي ليس بمغيّر أو بمؤثّر على المسار الفكري. يترجّح في كثير من كتابات المفكّرين الذين ينسبون الى الماسونية إستعمال توصيفات برزت في بدايات القرن التاسع عشر والتي توصّف من سمّي “ماسونياً” بـ “المفكّرين الأحرار”، “السّاعين الى الحقيقة”، “المتحرّرين من قيود التقاليد البالية”، “السّاعين لإيجاد أنفسهم”، “المتغلّبين على الروح الغرائزية الجماعية”، “المتحرّرين من العِقَد العنصرية”، “السّاعين الى الروحانية خارج إطار بعض الديانات القشرية”، الخ. يتبيّن بأنّ كلمة ماسوني لم تكن إلّا غطاء جمعت في طيّاتها صِفات تحرّرية وتقدّمية مرتكزة على عقلانية واعية مدعّمة بأبحاث علمية وإجتماعية. الماسون كانوا أفراد منطويين داخل تجمّعات مستترة خِشية من الإضطهاد السائد في تلك الحقبات. أمّا في أيّامنا لنجدَنّ الفكر الماسوني متغلغل في المجتمعات جَمعاء، حتى أنّه أصبح مفخرة للكثير من الباحثين، بالرغم من أنّ البعض قد يجهل مصدر تفكيره وإرثه. كثيرين يفتخرون بمنهجية تفكير الفلاسفة والباحثيين في فترات التنوير التي ما هي إلّا مرآة للفكر الماسوني والتي أصبحت ركيزة للفكر العلمي والمتقدّم.
محاربة العنصرية، التفرقة الإجتماعية والمكتسبات القبلية والإقطاعية، حريّة التفكير، حريّة العقيدة، حريّة التعبير على أشكالها الثقافية والفنيّة الخ… الإعتماد على الفكر الواعي ووضع جانباً الفكر الماورائي، الثقة بكلّ فرد بشري بأنّه قادر على الترقّي دون الأخذ بالحسبان أصوله وعِرقه ودينه و… الخ…
أصبحت هذه المفاهيم التي من ولأجلها قتل من قتل وحبس من حبس وقطع لسانه وحرق حياً واضطهد واتّهم بأرذل التعابير اللاّ أخلاقية… أصبحت من أساسات المجتمع المتطوّر. هذه هي بعض القيم التي تناقلتها الماسونية تحت الأوشحة.
هذه القيم الإنسانية ليست حِكراً على مجموعة أو مؤسسة ماسونية كانت أو غيره، هي من أساسات تطوّر الفكر البشري التي لم تكن بمتناول إلّا قلّة في أزمنة كان الإضطهاد والعنصرية والتفرقة الطبقية والدينية عنوان أساسي للهويّة.
لم يعد أساسي وجود تكتّلات ماسونية إلّا إذا كانت مختبر لرؤى جديدة وتقدميّة، وإلاّ تحوّلت الى نوادي للعيش على أمجاد لم يرث منتسبيها إلّا المسّمى. هناك ضرورة لوجود محافل إنسانية في كلّ بقعة من بِقاع الأرض، مكوّنة من مفكّرين وفنانين وأصحاب إختصاص بالتاريخ والإجتماع وعمّال وغيرهم، لدراسة أحوال مجتمعهم والتفتيش عن سُبل تطوّره. ما يناسب الشرقي قد لا يُناسب الغربي. وما يتأقلم به مجتمع آسيوي قد لا يتأقلم به عربي الى ما هنالك. فلذلك إستيراد أفكار وأنظمة يتعارض مع التطوّر الطبيعي لمجتمع وبيئة. من هنا لا تقبل الفلسفة الماسونية بوجدانيتها إلاّ محافل وطنية. أُناس من مكوّنات متجانسة تعرف حاجة مجتمعها بمقارنتها والإكتساب من المجتمعات الأخرى. أمّا إستجلاب وكالات تناسبت ومجتمع ومحاولة إلباسها لمجتمع آخر والتجمّل بلبوسها والتغرّر بالتشبّه بالآخر هو نوع من الإستعمار الفكري الذي يتناقد مع الفكر الماسوني، أو محاولة لإبراز المنتسب تفوق على أقرانه بإدعاء تابع لجهات كبيرة أجنبية. هذه هي حيلة الضعيف والفاشل الذي يعتبر شأنه يعلو إذا ما تشبّه وحمل مسمّى مجتمع متقدّم عليه بالوسيلة. العالم لا يتقدّم إلّا بالإحتكاك والتعلّم من المجتمعات الأخرى إنّما ليس بالتشبّه الأعمى. التنوّع هو من أساسيات هذا الكون الذي نعيش به، وكلّ محاولة لتجانس البشرية تحت أساسيات واحدة فشل في التاريخ ويتناقض مع المفهوم الحقيقي للتنوّع البشري.
من هنا الفكر الماسوني يتعارض مع إستجلاب وكالات، كما أنّه يتعارض مع العنصرية الخفية التي ترسيها هذه بالفرقة التي تضعها بين المفكرين تصل الى حدّ منع التواصل والتكلّم فيما بينهم، فتحوّلهم الى تكتّلات رخيصة كأصحاب الشيع الدينية الساذجة التي تعتقد مكانتها بإنتمائها الى والى… كما يقع في هذا الفخ صغار النفوس المصابون بآفة من آفات الجهل الوجداني، الذين يعتقدون أنّهم وبإنتمائهم الى تكتّل أجنبي سيستحصلون على الدعم المادي والإجتماعي لجهلهم بأنّ ذاك الأجنبي إذا كان ماسونياً فهذه تتنافى مع قناعاته وإذا كان ذا طموحات إستعمارية وإستكبارية فسيكون ثمنها مضاعف عمّا قد ينتفع منه…
من المبادئ الأساسية للفكر الماسوني القيام بالنفس. ما يطمح اليه الطالب هو الوصول الى الإستقلالية الكاملة الخالصة من أي تبعية. يأبى الرجل الحرّ أن يكون لاحقاً لأيّ شخص كان. إن تحلّى أحدهم بالمعرفة والحكمة، فعليه مشاطرتها الآخرين لكي يصلوا الى مرتباته دون منّة ولا إذلال وتبعيّة. هذه المقاربة هي الأساس في بِناء الرجال، الرجال الأحرار.
هذه المقاربة هي حقيقة الدينامكية الماسونية. لا يتقدّم الإنسان إلّا بمشاطرته تجارب الآخرين والإكتساب من عملهم. إلّا أنّه لا يصل الى درجة الرشد إلّا إذا استقلّ وكان قائماً بذاته. إن كانت هذه القاعدة في المجالات الإجتماعية والعلمية فكيف عليها أن تكون في مجال الفلسفة والحرية. يحضر ويشارك الطالب أساتذته في الجامعات ليصل الى درجة أستاذ، ومهندس وطبيب إلّا أنّ المطلوب هو أن يصل الى وقت يصبح فيه مستقلّ وقائم بنفسه ويخرج من صفّ الطلبة والتلمذة. هذا لا يمنع التواصل الدائم والمطلوب مع مراكز الأبحاث والجامعات ليبقى على مستواه العلمي. الشيء نفسه هو القاعدة بالماسونية وكان عليه ولم يزل في جمعيات الشغّالين، كان على الطالب الذي يبغى الوصول الى درجة الأستذة التدرّج على يدّ اساتذة ومعلّمين ماهرين الى أن يصل اليوم الذي به يستقل ويصبح أستاذا يعلِّم ويتعلَّم.
الماسونية مدرسة حرية ولا تتناغم والتبعية.
الفرق هو ما تكوّنه أنت من نفسك!
وتعمل للوصول اليه:
– حقوق النشر: الدكتور ميشال الخوري © ٢٠٢١