مقدمة في تاريخ المسيحية

مقدمة في تاريخ المسيحية.

     إصطلح روّاد العمل السياسي والإجتماعي على أنّ الديانة هي المدماك الأساس لأي تحرّك وهي العصب المؤثّر لتحريك عواطف العامة في أي تحرّك سياسي وإجتماعي أراده صنّاع القرار. وهي أفيون الشعوب كما ذكره كارل ماركس لذلك دأب الساسة وصناع القرار الى تكييف الديانات وفقاً لأهوائهم ومصالحهم السياسية فشرعوا بإدخال التحريفات والتلوينات العقائدية في صلب الديانة مستعينين برجال دين عرفوا على مرّ التاريخ بوعاظ السلاطين حيث التقت اهواء هؤلاء بمصالح أولئك لتفصيل ديانات على مقاس مصالح أفراد وهيئات سياسية لتكون الديانة هي المسير لمصالحهم بدعم العامة الذين يفدون بأرواحهم الدين الذي يعتبر فطرة تحرك المؤمنين وفقاً لتعاليمها وانطلاقاً من ذلك سنجري دراسات حول الديانات وما دخل اليها من إضافات وتحريفات بالدليل القاطع لوضع كل ذلك أمام الرأي العام المؤمن الذي يبقى وحده الحكم ونبدأ دراساتنا بالديانة المسيحية . 

الديانة المسيحية.

     تُعتَبَر الديانة المسيحية – التي تتقدّم نفسها كوريثة للديانة اليهودية ومكمِّلة لها- من الركائز الأساسية للفكر الغربي إنطلاقاً من الدين والعبادة مروراً بالتأثير السياسي والإجتماعي من مأكل وملبس وصولاً الى العمراني والفنّي من موسيقى أو رسم الخ…

لذلك وجب علينا تقديم دراسة علمية موضوعية تقدّم الديانة المسيحية كما قدّمها روادها سعياً وراء تقديم تفكير ناقد للعملية الدينية بكافة تفاصيلها وتفنيد ما يمكن تفنيده لذلك من البديهي أن نبدأ بالسؤال التالي:

ما هي الاصول التي ترتكز عليها الديانة المسيحية؟

    الأصول التي بنيَ عليها التشريع المسيحي:

1-      الكتب المعروفة بالأناجيل.

2-      رسائل الرسل بولس، يعقوب، بطرس، يوحنا ويهوذا.

3-      المجامع البابوية.

4-      الفكر المصري القديم، البوذية والوثنية.

5-      البابا منذ سنة 1869 في مجمع روما.

الأناجيل

     إنجيل وجمعها أناجيل هي كلمة يونانية(εὐαγγέλιον)  تلفظ(euangélion)   ومعناها “الخبر السعيد”. وهي روايات عن حياة المسيح والتي تعدّدت بحسب كاتبيها، إلا أن الكنائس المسيحية لم تعترف إلا بأربعة أناجيل وهي إنجيل متّى ولوقا ومرقص ويوحنا، وهي الكتابات التي ناسبت عقيدة ومعتقد السلطات المؤسِسَة للكنائس. رُدّت  الأناجيل الباقية تحت حجّة أنها منحولة ومنها إنجيل برنابا، إنجيل يهوذا، إنجيل فليبس، إنجيل بطرس، إنجيل توما الخ… 

     لم تكن الأناجيل الأربعة المعتمدة من الكنائس أول ما كُتِبَ عن السيد المسيح فإنجيل متّى كتب ما بين سنة 65 و85 م وإنجيل مرقص ما بين سنة 42-62 م و إنجيل لوقا ما بين سنة 65-90 م وإنجيل يوحنا ما بين سنة 70-150م. لذلك فإن رسائل بولس تكون قد سبقت معظم الأناجيل المعتمدة، إذ أنه من المتفق عليه بإن بولس كتب رسائله بحدود سنة 55 و63 ميلادي. فتكون الكتب الأم كتبت بعد كتابة الرسائل التي تعتبر متفرّعة وكاشفة للأناجيل (الكتب الأم)، وهذه إحدى العجائب الكبرى للكنائس بتبني الفرع الذي وجِدَ وترعرع ونمى قبل الأصل.

     من خلال العرض السابق سأسعى إلى تبويب هذا الفصل والسير به وفق مقتضيات كلّ مرحلة من دراسة الأناجيل والتعريف بها إلى إيضاح بعض المغالطات والمفارقات في الأناجيل المعتبرة المصدر الأول للعقيدة المسيحية مروراً بالتفصيل في شخصية بولس ورسائله ونقاط التنافر مع تعاليم السيد المسيح وصولاً إلى خلاصة البحث وتبيان كيفية دخول الوثنية للديانة ثم دراسة مفصّلة عن المدرسة المدرسية والتي أثّرت على المدارس اللاهوتية ردحاً طويلاً من الزمن .

 

أولا : الأناجيل:

تقسم الأناجيل والكتاب إلى ثلاثة أقسام الأول إنجيل متّى ومرقص ولوقا والقسم الثاني إنجيل يوحنا ورسائل بولس والقسم الثالث بعض الأناجيل الأخرى.

القسم الأول :الأناجيل الكنسية:

تعريف بالأناجيل الكنسية.

أنجيل متّى

     يختلف مؤرخي الكنيسة في تاريخ كتابة هذا الإنجيل كما بنسبته إلى متى، فإسمه لم يرد في كتابه ولا مرة كما أن مؤرخين معاصرين للفترة الأولى أمثال بابياس(Papias)  الذي تعتبره الكنيسة طوباوي (وهي درجة أدنى من القداسة) وتقيم له الشعائر في 22 شباط من كل سنة وهو كان قد ألف كتاباً من خمسة مجلّدات يدعى «شروحات أقوال الرب» أو «Expositions of the Sayings of the Lord»..  قال بابياس حوالي سنة 125 بأنّ متّى كتب بعض أخبار ومعجزات المسيح. ولقد تكلّم عن بابياس اوسيب(Eusèbe de Césarée)  في القرن الرابع الميلادي. كذلك كتب ايرينهsaint Irénée  سنة 180 بأن متّى كتب بلغة العبرانيين حياة المسيح. خلُص مؤرخي الكنيسة إلى الإعتقاد بأنّ متّى كتب قسم من أنجيله وأكمله فيليبس وهو من تلاميذ متى، إن لم يكن هذا الأخير من كتبه أصلا. يقال بأنّ متّى كتب كتابه بالآرامية ولكن هذه النسخة غير موجودة، ثم ظهر كتاب باليونانية قيل أنه ترجمة النسخة الآرامية ولم يعرف من هو المترجم ولا تاريخ الترجمة.(د شلبي).

أنجيل مرقص

     يعتبر مرقص أحد السبعين رسولًا الذين أختارهم السيد المسيح للخدمة كما شهد بذلك العلامة أوريجانوس. فقد كتب اوسيب  (Eusèbe de Césarée 265-340) ، بأنه وفي عهد الإمبراطور كلود(Claude)  أي حوالي 41 و42 ميلادي كان بطرس يبشر في روما وطلب منه أهلها أن يترك لهم ما أخبرهم به كتابة لكي لا ينسوه وعمد في ما بعد مرقص مرافق بطرس إلى كتابة إنجيله. إتخذ من مصر مقرّ له حيث قتل سنة 62 ميلادية (دشلبي). يكون هكذا كتابه قد كتب ما بين 42 و62 م. يظهر في أنجيل مرقص السيد المسيح كإنسان كامل فهو يجوع “وفي الغد، فيما هم خارجون من بيت عنيا، جاع.” مرقص(11: 12) ويتعب ويحتاج للراحة (31:6) واعتبر يسوع نجار بينما قال عنه متى أنه إبن نجار.

إنجيل لوقا

     لوقا ليس من الحواريين ولا من تلاميذهم، إنمّا هو من تلاميذ بولس وتبيّن هذا من رسائل بولس إذ يتوجّه إليه كطبيبه وكمرافقه. اختُلِف في وقت كتابة هذا الإنجيل وعلى من اعتمد كاتبه وممن إستَلهَم كتاباته! هل على ما تعلّمَه من بولس أو ما قراءه عن متى ومرقص أو ما استقصاه بنفسه. ينسب إليه بالإضافة إلى إنجيل لوقا “إعمال الرسل” لكتابتهم من الشخص نفسه وبتوجُهِهِم إلى المدعو “تاوفيليوس”، هذا ظاهر في أول السفر المدعو أعمال الرسل حيث يقول:”لقد أنشأت الكتاب الأول (يعني كتابه المسمى إنجيل لوقا)، يا تاوفيليوس، في جميع ما عمل به يسوع وعلّم به من البدء”. قيل انه توفى قبل دمار أورشليم سنة 70 ومنهم من أخّر تاريخ كتابته إلى سنة 80 م. مهما يكن وفي جميع الأحوال يبقى تاريخ كتابته مرتهن بإجتهاد المؤرخين ما بين 65 و 90 ميلادية.

القسم الثاني:

إنجيل يوحنا

     يختلف هذا الإنجيل كلياً عن الثلاثة السابقين واتّخذ منهج فلسفة مدرسة الإسكندرية المحدّثة وركّز على إبراز ما لم يكن معهودا من قبل وهو إلوهية المسيح. اختُلف في تحديد وقت كتابته ونسبته إلى يوحنا وتختلف التقديرات ما بين سنة 70 و150 م. ويكتب كبار المحققين في الكتاب المقدس:” “qui ne vient pas ou n’indique pas venir de l’apôtre Jean””  ما ترجمته ( أنّه لا يقدّم و لا يدلّ بأن يوحنا الرسول هو كاتبه ). من نَسَبهُ إلى يوحنا هو الأسقف إيرينه (saint Irénée) الذي تكلّمنا عنه سابقاً. ويختلف هذا الإنجيل في مضمونه كلياً إذ يتكلّم عن الملكوت الذي تكلّم عنه الإنجيليين السابقين بأنّه فقط روحاني وليس بقادم أو أرضي وغيّب فكرة عودة المسيح كلياً. دارسي الكتاب وجدوا فيه أسس الأفكار الغنوصية  والكلّ متّفق بأنه كتب على مراحل، يقول براون (Raymond E. Brown)  كُتِب على ثلاثة مراحل الأولى بالإرتكاز على من شاهد وعاين وعايش المسيح، ثم إضافات تمّت على أيدي من أدخلوا فيه الأفكار الغنوصية والروحانية وفي النهاية النسخة التي بين يدينا اليوم.

رسائل بولس

     تتضمّن رسائل بولس مجموعة من الرسائل المنسوبة إلى بولس ، مع وجود بعض الخلافات حول المؤلف الحقيقي لبعض هذه الرسائل.

 رسالة بولس إلى أهل رومية، كورنثوس، الثانية إلى أهل كورنثوس، أهل غلاطية، أهل أفسس،  أهل فيلبي، أهل كولوسي، أهل تسالونيكي، الثانية إلى أهل تسالونيكي، الأولى إلى تيموثاوس، الثانية إلى تيموثاوس، إلى تيطس، إلى فليمون.

 الرسالة إلى العبرانيين (يشكك علماء الكتاب المقدس المحدّثون، بل وحتى بعض القدماء، في نسبتها إلى بولس).

هيمنت شخصية بولس الطرسوسي على العصر الرسولي للمسيحية كما أن رسائله خلفت أثراً عظيماً على هذه الديانة، فقد تضمنت أولى كتابات اللاهوت المسيحي، وكانت كتاباته تلك ذات طابع روحاني أكثر من أن تكون تحليلات ذات صفة منهجية. وأصبح لاهوت بولس منبعاً للعقائد المسيحية أعطى له اللاهوتيون المسيحيون تفسيرات عديدة، فقد اعتمدت عليه الكنيسة منذ العصور الأولى وإليه استندت الفرق المسيحية المختلفة لاحقاً.

 

القسم الثالث:

الأناجيل الأخرى.

     ليس الهدف من ذكر هذه الأناجيل الدخول في جدل حول تاريخيتها وقيمتها الدينية، إنما نذكرها لأنها أوردت بعض القصص الغير مذكورة في الأناجيل الأربعة الأولى وإعتمدت من الكنائس كحقائق عقائدية، ليتورجية وإيمانية. منها الحبل بلا دنس للعذراء، نزول المسيح في الثلاثة أيام بعد صلبه الى الجحيم الخ…

إنجيل يعقوب.

     إنجيل يعقوب أو كما سميّ أوّلا “حياة العذراء مريم”.

كتب هذا الإنجيل عن طفولة يسوع كما رواها يعقوب. ما ورد في هذا الإنجيل يسبق الفترة الزمنية التي كتبت عنها الأناجيل، وفيه معلومات تبنّتها الكنائس المسيحية من دون أن تفصح عن موردها، والتي استقتها من هذا الإنجيل.

     هناك نسخ يونانية وسريانية وأرمنية  لهذا الإنجيل وكتبت في فلسطين ومصر.

تظهر بعض الشواهد عن هذا الإنجيل في كتابات آباء الكنيسة من كليمان الاسكندراني الذي عاش في اليونان مابين (150- 220) واوريجين الذي ولد في الاسكندرية سنة 185 وتوفي في صور سنة 253. أثّرت كثيراً روايات هذا الإنجيل في رسم الأيقونات. تكلّم عن أخوة يسوع ونسبهم الى زواج سابق ليوسف كما تكلّم عن عذرية مريم. تكلّم عن والد مريم يواكيم ووالدتها حنة الذين أغفلتهما الأناجيل الأربعة المعروفة ومن هذا الإنجيل استسقت هذه المعلومات، كما يخبر بأن ملاك حضر عليهما ليبشّرهما بالولادة العجائبية التي ستكون لمولودتهم مريم. إعتمدت الكنيسة قصة الحبل بلا دنس سنة  1854 وأعلنتها عقيدة بالأمر البابوي (Ineffabilis Deus) الصادر عن البابا بيوس التاسع. أربعة سنوات بعد هذا الإعلان قالت “برناديت دوسوبيرو” أنها رأت في رؤية العذراء مريم في مدينة لورد وأكّدت لها أنها حبل بها بلا دنس. فكان الإعلان عن العقيدة قبل الرؤية في لورد في 25 اذار (مارس) من سنة 1858.

     كيف تلفظ وتحرم الكنيسة كتاب لعلّه موحى إذ أنّه وقبل 1700 سنة من إعلان هذه العقيدة تكلّم عنها، بالإضافة الى إغفالها من الأناجيل الأربعة المختارة كصحيحة بالإضافة الى إعلامنا بأسماء والد ووالدة العذراء مريم. فمن هو الصحيح عندها؟

كثير من روايات هذا الإنجيل دخلت في المعتقد المسيحي دون أن تكون قد ذكرت في الأناجيل الأربعة.

إنجيل نيقوديموس.

     قصة نزول المسيح الى الجحيم لتبشير الموتى مأخوذة من هذا الإنجيل ولم ترد في أي من الأناجيل الأربعة. وتدخل في الليتورجية وفي مفهوم الإيمان المعتمد.

إنجيل توما.

     عرفنا انجيل توما من خلال مخطوطات نجع حمادي. حيث أن هذا الإنجيل يتألف من 114 قول نُسب الى المسيح ويبدأ كل قول الذي يسمّونه لوجيا (Logia) ب “قال يسوع”. ذكر هذا الكتاب على لائحة الاسقف اتاناز الاسكندري الذي أوصى بحرق جميع الكتب (التي وجدت في نجع حمادي) بما فيها هذا الكتاب.

    على المئة وأربعة عشر لوجيا ليسوع  79 تسعة وسبعون تتوافق مع الكتب المعتبرة أناجيل صحيحة. يوجد لدينا ثلاث نسخ يونانية من هذا الكتاب بينما لا يوجد إلا نسخة واحدة من إنجيل مرقص ورسائل بطرس ورسائل يوحنا.

     عرف بأن يعقوب بشّر في أورشليم ويوحنا في آسيا الوسطى وبطرس في روما. وكما هو معروف من التقليد المسيحي بشّر توما في منطقة اديس (Edesse) الموجودة في تركيا اليوم .

     اللوجيا الثانية التي تظهر الفكر الغنوصي كانت موجودة في إنجيل العبرانيين الذي فقد.

لوجيا رقم 2: قال يسوع: من كان يفتّش فليكمل التفتيش، حتى يجد. وعندما يجد ستشتكل عليه الأمور، وعندها سيستنير ويحكم على الكلّ.

     وكأنّه يقول: أنّه من يفتّش ويصل الى الخلاصات الحقيقية الوجدانية، يملك ويشارك في الألوهية. وهذه من العقائد التي إعتمدتها الكنيسة الكاثوليكية وأدخلتها في صلب مفهومها بمشاركة المخلوق لخالقه بالقداسة والشفاعة ومنها عقيدة القدّيسين.

     لماذا أُختير فقط أربعة أناجيل؟.. إختلفت الروايات في ذلك وقال الأسقف ليون في كتابه المتوجّه ضد البدع ( لا يمكن أن يتواجد أكثر أو أقلّ من أربعة أناجيل، بالحقيقة يوجد أربع إتّجاهات للأرض وأربعة إتجاهات للهواء، وكما أن الكنيسة منتشرة في جميع بِقاع الأرض إنّه من الطبيعي أن يكون لها أربعة أعمدة، كما الشاروبيم والصاروفيم ذوات الأجنحة الأربعة).

ما هي الظروف التي ادّت الى نشأة فرق ومنها الغنوصية.

     أولاها، عدم وجود مرجع كتابي ترتكز عليه العقيدة.

في الفترة الأولى للمسيحية لم يكن هناك مرجع كتابي يساعد المنتسبين الجدد لتبيان حدود عقيدتهم وإيمانهم، كما في أيامنا يمكن للباحث أن يجد “إنجيل” في أيّ مكتبة، تحصِى الكتابات المعروفة جميعها أو حتى على حاسوبه.

    عُرِف عن يسوع بأنّه بشّر ولمدّة ثلاث سنوات في مناطقٍ مختلفةٍ، ممّا يعني بأنّه لم يكن هناك رسالة كاملة يعتمد عليها من اعتنق هذه العقيدة. ما عُلّمَ وبشّرَ به في الجنوب كان مختلفاً عمّا قيل في الشمال، من رافق يسوع حَصى لربما كل ما قيل وبشّر به، إلاّ أن السامع السامري أو الأورشليمي لم يصله من هذه الرسالة إلا أمثولة من هنا وما سمع من هناك. فالمجموعات التي قالت بأنّها إعتنقت المسيحية لم يكن بين يديها سوى أمثلة وأفكار محدودة إقتبستها وإقتنعت بها ثم أدخلتها في منظومة حياتها، وهذا ما ساعد على بروز ونشوء تجمّعات مختلفة، إنتشرت في بداية العصر المسيحي وبقيت على هذه الحال لأكثر من أربع مائة أو خمس مائة سنة والبعض يقول الى ظهور الحركة التصحيحية.

     أرسل يسوع وعلى دفعات رسل يبشّرون بقدومه وكان هذا بعد رؤيتهم خارقة أو سماعهم أمثولة أقنعت وجدانهم. وتوجّه هؤلاء في رسالتهم غير فاقهين ألّا القسم الذي سمعوه، فعند وصولهم الى مجموعة أو قرية بشّروهم بما سمعوا  به، والذي لم يكن إلاّ قسماً يسيراً من رسالة يسوع.

     فعندما كرز يسوع كان يرسل تلاميذه للتبشير برسالته كما كان يطلب ممّن شفاهم أن يذهبوا ويبشّروا أهليهم. كما حصل مع الأعمى والأبرص والكسيح وغيرهما. ما هي الرسالة التي حملها هؤلاء؟ ذهب هؤلاء الى أهليهم وعشيرتهم حاملين رسالة مفادها أن هناك رجل يدّعي رسالة سماوية وإثباتاً لذلك وتدعيماً لأقواله يقوم بخوارق منها شفاء السقماء والمحتاجين. وإن سُئلوا عن أقواله، فبالطبع لا يعرفون إلّا القليل “الذي سمعوه منه مباشرة”، إن كان أمثولة أو مثلاً.

     فكلّ من ذهب يكرز ويبشّر أو من بعد شفائه ذهب لأهله، فهو لا يحمل إلّا جزء يسير من الرسالة التي نعرفها اليوم. فمن البديهي أن من وصلتهم الرسالة تفاعلوا بطرق مختلفة بحسب القليل الذي ورد اليهم.

     وجد هؤلاء أنفسهم أمام مأزق. أعجبوا بالمقاربة الجديدة إلّا أنّهم لم يكونوا ليملكوا نظاماً كاملاً متكاملا، يساعدهم في تنظيم حياتهم.

     فما رغبوا به تلقفه قلبهم إلا أنّ عقلهم حاول أن يدخل هذا المفهوم في حياتهم اليومية وهنا وقع الإشكال. كيف أستطيع من خلال شيء قاربته قلبياً أن أبني عقيدة وشريعة كاملة. لا يخفى أنّ من وصلت اليه الرسالة كان يملك مفاهيم ومنظومة فكرية سابقة. فما كان يراه لا يتناقض مع الفكر الجديد لم يرفضه. فوجد نفسه أمام أفكار يقبلها قلبه، فحاول المقاربة بينها وبين معتقداته من خلال إندماج عقلي. كانت تعتمد المجتمعات على قوة فكرية مبنية على الفلسفة القديمة من إغريقية ويونانية الخ…، وهذا ما توضح باكتشاف مخطوطات غنوصية في نجع حمادي، التي وبالإضافة الى الكتابات المسمّات مسيحية إمتزجت مع كتابات أرسطو والفلسفة الهلينية واليونانية والقديمة من هرمسية ومصرية، اتّهم هؤلاء بالفسق والزندقة لإستعمالهم كتابات رُفضت من بعض الأساقفة.

     ما تقدّم يقارب تفهّم الإختلافات الإجتماعية والحيثية التي أدّت الى نشوء تجمّعات مختلفة. سنعرض فيما بعد بعض الأسباب العقائدية التي أدّت الى نشوء صراعات وفرق مختلفة.

 – حقوق النشر: الدكتور ميشال الخوري  © ٢٠٢١

error: Content is protected !!