مقدّمة الهرمسية

مقدّمة الهرمسية

    عرفنا الماسونية بأنّها فلسفة غنوصية، الباحث الساذج يعود الى المواقع الدينية المعروفة التي شنّت الحرب والعِداء لكلّ ما خالف منهجها، والتي صبّت جام حممها على الغنوصية متّهمة إيّاها ببدعة، وبقينا على هذه الحالة الى سنة 1945 عند إكتشافات نجع حمادي. ما كُتِب عن الغنوصية كتب من قبل أعدائها ومحاربيها، فبطبيعة الحال لن تجد إلّا إتهامات زائفة وبالية. عرفنا عند بعض الفرق الدينية أفرادا تجاوزوا المعهود ودخلوا في طبقات روحية عليا سمّيت بالصوفية ثم بالعرفانية في الطبقات العليا.

     تبين أنّ أصحاب هذه القناعات العرفانية توصّلوا من خلال الكتاب الى مفاهيم تجاوزت الروايات المعروفة وإرتفعوا الى الطبقات العليا. معتمدين في دراساتهم على:

  • حدسهم الباطني وعلى عقلهم.
  • وعلى معارف الشعوب القديمة.

وهذا الذي بيّنته إكتشافات نجع حمادي عند الغنوصيين. فبالإضافة الى الكتب الدينية تبحّروا بكتب الفلسفة والكتب الهرمسية.

     يُطلق إسم فيلسوف على كلّ من عمل في هذا المجال من طاليس، اناكسيماندر، اناكساغور،..سقراط، افلاطون، ارسطو…هيغل، كانت، نيتش، ماركس وأنغلز وغيرهم.

     لو أخذنا كتاباتهم لإختلفت كلياً من المادية المحضّة الى الوجدانية الى الروحية… وبالرغم من ذلك يسمّون فلاسفة. كذلك أهل العرفان لتجدنَّ إختلاف في أساسات فكرهم الديني أيّاً كان، إلّا أنّهم بعد الترفّع عن الحدود الضيّقة لدينهم يصلوا الى طبقات يتلاقون مع أقران لهم حولها. العامة تدخل في سجالات وعداوات مع من يختلف معهم في الدين لتمسّكهم بالطقوس والقشور السطحية، بينما تجد أهل العرفان من نفس هذا الدين أو ذاك يتلاقوا فيما بينهم ومع البشرية جمعاء حول القيم الإنسانية والروحية السامية.

     العرفانيين طبقة من المفكّرين تجدها عند المسيحيين والمسلمين وفي الديانة اليهودية كما البوذية وغيرها. إنّها صفة خارج الكتب المعتمدة أو المعتمد المادي الخارجي أكان رسالة أو معجزة أم خوارق الخ…

     من هنا نفهم الصفة القائلة بأنّ الماسونية فلسفة غنوصية أو عرفانية.  هي أوّلاً فلسفة متّصفة بالغنوصية، فهذا لا يضعها بمصاف أي دين أو كتاب إنّما يضفي عليها صفة من دون إلتباس أو تشبيه حرفي أو متطابقي مع بقية الحركات العرفانية.

في الهرمسية.

    كما وجدنا من أهل الديانات الكتابية والغير كتابية أفراد يتميّزون بسموِّهم على العامة وإلتقائهم وإخوتهم بالبشرية جمعاء ومن خلالها الدخول في الفلك الكوني. كذلك وجد عند الشعوب القديمة أفراد ومجموعات إرتقت الى هذه الطبقات من خلال تفكّرها الوجداني الخارج عن الدين. مِثال على ذلك الهرمسية والطاوية اللّتين تؤكّدان إمكانية العيش في وئام مع القوى الكونية خارج إطار الأديان المعروفة.

الروحانية.

     تُدخل الهرمسية والطاوية مفهوم آخر للروحانية مرتكزتين على إرتقاء الداخل بتلوين الخارج  الى الطبقات ذاتها التي تكلّم عنها أهل العرفان في الديانات المعروفة.

موقف الديانات من المنهج الهرمسي.

     أظهرت الديانات المعروفة العِداء التّام لكلّ ما خالفها. بالرغم من ذلك إعتمدت الديانات المعروفة في طقوسها وعاداتها على الكثير من ما قامت وعملت عليه الشعوب القديمة. على سبيل الذكر لا الحصر، صرّحت الكنيسة الكاثوليكية بلسان حبر روما المعتبر معصوم في الأمور الدينية، الذي قال في الرسالة البابوية (FIDES ET RATIO) للبابا يوحنا بولس الثاني الصادرة في 14 أيلول (سبتمبر) 1998، ورد في الفقرة 40 و 41 بأنّ أساتذة المدرسة المدرسيّة تبنّوا الأفكار الوثنية ومسحنوها (أي أدخلوها المسيحية)، كما يدخل شخص بالمسيحية بعد تعميده بالماء هكذا تبنّى أباء الكنيسة والقيّمين على إستمرارها المعتقدات والعادات الوثنية وألبسوها حلّتها الجديدة فبرأت وأصبحت صالحة للإستعمال “بمسحنتها” أي عمادها. تقول الرسالة “فيدس و راسيو”  لأن خبرة الشعوب الوثنية هي خبرة طبيعية ما بين المخلوق مع من خلقه، الله، فبإدخالها المسيحية يلتقي الخالق مع خلقه. هذا إعتراف صريح بأنّ الشعوب القديمة وصلت من خلال الطبيعة الموجودة من الله الى الله.

الهرمسية.

     الهرمسية منهج فلسفي وروحاني غير ديني نسب بتأسيسه الى هرمس. يعتمد في أكثر الأحيان على الروايات التي نسجت حول هرمس ويتناسى الباحثين الرسائل الهرمسية. الروايات تتكلّم بشكل ديني أكثر ما هو فلسفي، فتنسب الى هرمس صِفات إلهيّة كما أفعال خارقة، كإكتشافه الكتابة والموسيقى والفن والهندسة وعلم الفلك الخ… روايات أقرب الى الأساطير منها الى الحقيقة، التي ترفع المحكي عنه الى طبقات لا يصلها الإنسان ونُسِبَت الى آلهة على مدار الأزمنة. ليجدنّ الباحث كثير من الكتابات القديمة التي نسبت الى هرمس لإعطائها صفة الصدقية.

     وهناك الرسائل الهرمسية التي هي بعيدة كلّ البعد عن هذه الأساطير والتي ترشد الباحث الى نواميس الكون والطبيعة،  وحول هذه الهرمسيّن.

ماذا يجد الباحث في الاحضار الهرمسي؟

1-الاحضار الهرمسي ليس بكتاب منزّل.

2-كتب جُمِّعت لإعطاء المفتش والباحث أداة للتفكر وإستحضار فكره الباطني.

3-لا يمثّل المكتوب الظاهري إلّا الجزء اليسير من الجبل الجليدي.

4-كُتِب ليكون متلقّف ومفهوم ممّن هو على نفس الطبقة المتجانسة.

5-كُتِب الاحضار بشكل يصعب على الغير مكرّس أن يصل الى النوافذ التي يفتحها والمفاتيح التي يقدّمها. مِثال على ذلك “هنري كورنليوس اغريبا”، الذي قال بأنّه لم تدخل الهرمسية وجدانه إلّا بعد أكثر من 30 سنة من العمل عليها.

6-هناك كتب شرح ومفاتيح للدخول الى الاحضار الهرمسي  ومنها “الكيباليون”  للتلامذة الثلاثة.

في تقسيم الرسائل الماورائية.

     الكتب والرسائل التي تعتبر نفسها ما ورائية، تقدّم للبشرية أسلوب أو طريقة تضمن للشخص من خلالها الوصول الى الحياة السعيدة على الأرض والمكتفئة بعد الممات، كما أنّها ترشد الى أسرار ونواميس الكون والطبيعة.

     تبيّن مع الزمن والإكتشافات العلمية ضعف الروايات المنسوبة الى بعض الكتب الدينية، كما أن التاريخ كذّب بأنّها الوحيدة الصالحة للعيش بسعادة وكرامة. يبقى وعدها بالحياة الآخرة. هنا يقول الغنوصيين من فشِل في عدّة ميادين يستصعب تصديقه في الميدان الأخير لعدم وجود إمكانية لإثباته، هذا لا ينفي وجود حياة أبدية إنّما ليس من خلال طرقهم.

الكتب الهرمسية ومنها الاحضار الهرمسي ككتب توجيه وإرشاد، أثبتت مع التاريخ أنّها لم يُخطأ في تقديماتها كما حصل مع الكتب الأخرى.

من هو كاتب الاحضار الهرمسي.

     كتبت الرسائل الهرمسية على فترات مختلفة، من هنا يُتَكلّم عن عدّة أشخاص نُسِب إليهم اسم هرمس، أضاف في كلّ فترة ما أغناها. يقول الهرمسيون أنّ هناك قوى كونية حكيمة لا تترك البشرية دون منارة. لذلك وفي كلّ فترة وبحسب ما تحتاجه البشرية توحي لمن إرتقى في العمل والعلوم الى ما فيه خير البشرية، وذلك دون تفرقة وبالتساوي لجميع الخلائق دون إستثناء. فالقوى الكونية لا تخصّص شعب ولا لغة ولا عنصر بل تنظر بشكل متساوي للخلائق جمعاء. يقول هرمس أنّ “النوس” تكلّم معه مباشرة من دون وسيط، ويقول أنّ النوس هو الإله الواحد ( 36-37 ك ه), وليس بحاجة لوسائط وإلّا إعتبر هذا إنتقاص من صفاته. الفرعون المصري أخناتون أعلن عبادة الإله الواحد مستوحياً من هرمس. يأخذ الهرمسيين على الديانات الابراهيمية التي قالت بإله واحد، إلّا أنّها أبقت على الوسطاء، ولكن بدل أن تسمّيهم أنصاف آلهة كما كان في الديانات المتعدّدة الآلهة القديمة، سمّتهم ملائكة وشفعاء وأولياء. إنّ الله بمفهوم الهرمسية ليس بحاجة لوسطاء ليكلّم خلائقه.

ماذا تشمل الرسائل الهرمسية؟

     سنقدّم في الدراسات في هذا القسم ما يبيّن حقيقة الفكر الهرمسي الذي هو عمادة العلوم الغيبية جميعها، إنّما خارج الأشكال الهزيلة من علم فلك وتنجيم وكشف الغيب وغيره..  إنّ الهرمسية مسيرة روحانية عرفانية متجرّدة من كلّ خيال بسيط وأسطوري. الهرمسية علم العلوم الغيبية الروحانية العرفانية الخالصة.

يستعمل الماسون العلوم الهرمسية بمنهجية فلسفية لذلك نصف الماسونية بـ”فنّ هرمسي”.

مفتاح الحكمة.

 – حقوق النشر: الدكتور ميشال الخوري  © ٢٠٢١

error: Content is protected !!