واجبات المبتدئ

واجبات المبتدئ

لا بدّ أنّ المبتدئ الذي جاز مرحلة التكريس، وإطّلع على المراسم الأخرى ثمّ على التعاليم، قد كوّن فكرة شبه تامّة عن الواجبات التي تترتّب عليه.

     إلّا أننا نرى، إكمالاً للفائدة، أن نورد فيما يلي أهمّ ما يجب أن يعمل المبتدئ على تطبيقه والتحلّي به، حتى متى أصبحت هذه ملكة فيه وسجيّة من سجاياه، إرتاح ضميره إلى الخطى الصحيحة الثابتة التي يسير بها نحو التقدّم، وتاقت نفسه الى ما هو أجلُّ وأعظم، فيرقّى الى الدرجة الأعلى عن جدارة فِعلية، حيث يجد المجال فسيحاً له لكي يستمر في مدارج التقدّم على طريق المعرفة والكمال.

     إنّنا لنؤكد إنّ أعظم سرور يشعر به الإنسان هو في تغلّبه على ضعفه وعلى ما في نفسه من رواسب سيئة وجهل، وفي رضا ضميره الواعي عن الأعمال التي يؤدّيها. إنّها، هي، السعادة الحقيقية التي لا تعدلها سعادة.

 

الصمت والتأمّل:

     يُقال إنّ من لا يصغي لا يتعلّم، ومن لا يتعلّم ينطق خُلفاً إذا نطق. من هذا جُعل الصمت فضيلة أدبية ممتازة، وخصوصاً لمن أراد أن يتعلّم التفكير. إن الفكر ينضج بالتأمّل الهادئ العميق الذي هو في الواقع تخاطب داخلي يجري في قرارة الذات الواعية، ونحن نعلم أن الرأي الأصيل إنّما هو وليد التروّي والنقاش الحميم الذي يجري في أعماق الفكر، فنلاحظ أن العقلاء والحكماء يصغون أكثر ممّا يتكلّمون.

     فالماسوني المبتدئ حَريُّ به أن يكون كثير التحفّظ في ما يقول، بعيداً عن كل استثارة كلامية خشية أن ينساق الى غير ما يريد، إذ ليس ثمّة خطأ أفدح من مناقشة حقيقة سيئَ فهمها فتكون مؤذية بقدر ما هي خطرة.

     لئن تكلّم الماسوني فيجب أن يكون كلامه على مستوى من يتحدّث اليه، فلا يسوق أفكاراً جريئة تدهش السامع وتتعدّى إدراكه، إذ لا فائدة من مفاجأة العقول التي ما برحت مغلقة. إنه يقتضي إيقاظها أولاً ثم إيلافها ثم إعدادها لمواجهة نور الحقيقة، لأن النور المفاجئ يؤذي العين ويجهر البصر.

     يجب أن يحرص الماسوني على ألّا يفرض أفكاره عنوة، وألّا يحمل الناس بالعنف على الأخذ بما يقوله هو، بل يجب الإستماع بأناة ومحبة الى كل متكلّم.

     ولكي يستطيع المرء أن يكوّن رأياً صائباً عن موضوع ما يجب أن يستمع الى جميع الآراء لا فرق أكانت متناقضة أم متوافقة ثم يحكم بعدئذ بحسب الاستنتاج الذي يجب أن يصل اليه بدون إندفاع ولا تحيّز، وبذلك يتعلّم أن يكون مفكّراً حرأً مستقلاً. وهذا ما يجب أن يحرص الماسوني المبتدئ على تحصيله.

 

حفظ الأسرار :

     يحرص الماسوني دائماً على عدم البوح بما يمكن أن يسيء الى الماسونية أو إلى أبنائها. إن الأخوة مرتبطون بعضهم ببعض بعقد مبرم متبادل بينهم، ولكي يتمكّن الماسوني من أداء الإلتزامات التي أخذها على نفسه بموجب هذا العقد دون أن تأتي نافلة في غير موضعها، يجب أن يستطيع التمييز بين الضالع والغريب بواسطة رموز متوافق عليها لا يعرفها إلّا الأطراف المتعاقدة، فهذا الواقع يفرض أن تبقى وسائل التعارف رهن تحفظ.

     أمّا المراسم التي تجري في الهيكل فإنّه يمنع على الماسوني أن يتحدّث عنها في الخارج لأن العقول الضحلة التفكير قد تجعلها موضع هزء وسخرية لأنّها لا تفهمها ولا تدرك مراميها.

     صحيح أن هذه المراسم لم تعد سراً خافياً على من هم في الخارج، لأنّها ظهرت بتفاصيلها في كثير من الكتب المطبوعة منذ مطلع القرن العشرين، بيد أن كل ما نشر حتى الآن ليس كافياً لإظهار حقيقة الماسونية، وتمكين القارئ الخارجي من فهمها وإصدار حكم صحيح عليها، إذ أن ما طبع ليس إلّا عرضاً خارجياً شأنه بالنسبة الى فلسفة الماسونية شأن القشور من اللّب.

     إن روح الحرص على الأسرار كثيراً ما حملت الأقدمين على الإغضاء عن النقد الذي كان يوجّه اليهم، وتحمّل الإساءات التي كانت تصيبهم، مفضّلين التريّث الى أن تسفر الحقيقة عن نفسها.

     إن المتضلّعين في درس نواميس الطبيعة يلتزمون دائماً الصمت. إنّهم يركّزون تفكيرهم فيعطونه أكبر قدر من الطاقة الفاعلة، ويجعلون الفكرة المركّزة التي تحيط بكل ما يرمون اليه عاملاً مساعداً لفرض شخصية تتمتّع بقوّة زخمية هائلة.

     أضف الى ذلك الإنضباطية التي يجب أن يتحلّى بها الماسوني فلا يبوح بشيء أكثر ممّا هو مسموح له التصريح به لأن في ذلك حفاظاً على كرامته وشرف عهده.

 

التسامح:

     إنّه لمن الغرور والصلف أن يقيّم المرء نفسه قاضياً يدين آراء الناس ويصنّف عقولهم وأفكارهم.

     مهما اختلفت وسائل التعبير واختلفت الآراء فإنّها يجب أن تبقى موضع تقدير ما دامت صادرة عن رجل يؤمن بما يقول. هذه الآراء، كائنة ما كانت، وبأي أسلوب جرى إبرازها، إنّما هي تعبّر عن الحقيقة من إحدى زواياها الكثيرة التي تختلف بإختلاف النظرة إليها. إنّ في كلّ رأي شيئاً من الحقيقة، إذ ليس ثمّة من رأي خاطئ إطلاقاً، وليس ثمّة من رأي يمكن أن يدّعي صاحبه أنّه صائب إطلاقاً، وهذا يجب أن يحملنا على أن نكون متسامحين فلا نفرض على الناس أن يروا الأمور كما نراها نحن، فقد نكون نحن المخطئين وهم المصيبين.

     ومن ناحية أخرى يجب ألّا يفوتنا الشعور بما في عقل الإنسان من ضعف، وبأنّه لا يقترب من إدراك الحقائق إلّا بعد مراحل التدرّج يرقى إليها واحدة واحدة ببطء كبير أحياناً. فلكي تساعد العقل على التقدّم والتدرج يجب أن تراعي الأدوار المتعاقبة التي يمرّ بها تطوّره، ولن يكون ثمّة أجدى من التسلّل الى أعماقه بلطف ورصانة، إذ ليس من الحكمة إجتياح العقول المتخلّفة ودفعها عنوة للسير بخطى أسرع ممّا تستطيع، بل يكفي أن تتقدّمها وتشجّعها فتجمّع نفسها وتتبعك. والسير أمامها لا يكون بطريقة التحدّي، أو إثبات دونيتها والتدليل على تأخّرها، فليس من مخالفة إنسانية أدبية في نظر الماسوني أفدح من هذه .

     الطريقة المثلى التي يتبعها الماسوني هي ألّا يفرض آراءه على الآخرين بل يحدوهم بلطف لكي يكتشفوا هم بأنفسهم ما سبق أن وصل إليه هو، أي إن الماسوني يفكّر ويسهّل لغيره سبيل التفكير.

 

البحث عن الحقيقة:

     الفرق بين الأديان والماسونية هو أن هذه الأخيرة لا تدّعي إنها تحيط بالحقيقة المطلقة وأنّها تعلمها بنهج وأسلوب. كلا ليس في التعاليم الماسونية أيّة عقيدة معيّنة ولا قانون إيمان معيّن، بل إنّما هي تهيب بالماسوني على أن يبحث هو نفسه عن الحقيقة فيكوّن من تلقاء ذاته قناعته الخاصة ويقف حيث يستقر عقله ومفهومه وإدراكه دون تقصير ولا إرهاق، إنّها تعنى بتعليمه ممارسة فن الإصغاء والتأمّل والفهم والتفكير ثم البحث عن الحقيقة. هذا الفن نمارسه كأنّما نحن أمام جرم خام يجب تهذيبه وإزالة الزوايا والنتوءات المتعادية فيه والكشف عمّا يستبطن من روعة وجمال، وبتعبير آخر يمكن القول إنّ هذا الفن يعنى بنزع الأخطاء التي تشوّه وجه الحقيقة، هذه الحقيقة الموجودة في كل مكان لكنّها مغطّاة وتستوجب إزالة ما يغشيها من خطأ وتمويه.

     إن الأعراض التي تحجبها ما هي إلّا بمثابة القشرة أو الهيكل أو الجسم لعنصر الحقيقة، وما الخطأ الذي نقع فيه أحياناً غير تعبير عنها خاطئ يجب إصلاحه وتقويمه ومتى قومنا هذا التحريف وأزلنا الخطأ أصبنا قلب الحقيقة.

     يجب ألّا نرفض مسبقاً أية فكرة تُعرض علينا لأن كل تعمية أو إنحياز يسيء الى ما نتوخى من عدل وإنصاف وتجرّد في حكمنا على الأمور.

     إن صديق الحقيقة الفعلي لا يمكن أن يكون ضيّق التفكير قابعاً بإصرار في حيّز عقله الضيّق، بل يكون منفتحاً بإتساع لقبول الأفكار التي يمكن أن تطوّر تفكيره وتعدّل آراءه وتبدّد أوهامه.

     إن من كانت له آراء جامدة ويأبى إلّا الإبقاء عليها والتمسّك بها لا يكون رجلاً عاقلاً وتقدّمياً، بل يكون كمن يحسب نفسه حَبراً جليلاً عارفاً معصوماً عن الخطأ ثم لا يلبث أن يرى نفسه يعمه وحده في ظلام الجهالة والغرور. لئن قصّر النور الماسوني عن هداية من كان هذا شأنه فذلك لأنه هو نفسه يرفض أن يفتح عينيه ليرى النور، ويصرّ بعناد على جهله الذي يجهل مداه.

 

التعاون الفاعل:

     لئن اقتصرت الماسونية على العمل في الحقل النظري فإنها تبقى في عالم الخيال والتصوّر، وتلبث بعيدة عن واقع الحياة ومشكلاتها، بعيدة عن الآلام التي ترهق الإنسان في مواجهة الحياة. إن لهذه الآلام فعلاً عميقاً في قلب كل رجل كريم، فتستثير عطفه، وترهف إحساسه، فتجعله قريباً من الآخرين بقدر قربه من ذاته وإنسانيته.

     فالماسونية التي تهيب بأبنائها على السير في طريق المعرفة والكمال تنكر عليهم أي إنطواء أناني قائم على ابتغاء المعرفة والكمال في منأى عن معاطاة الناس ومواجهة تجارب الحياة ومغرياتها، إنّها ترتفع بهم عن لا مبالاة النفعيين الانتهازيين الساعين الى امتيازات وافضليات لا تتسنّى لغيرهم من سواد الناس.

     إن من شيمة كلّ كريم نبيل أن يشعر بالضيم عند كل انحراف ولو لم يصبه منه أي أذى مباشر، ولولا ذلك لا نبتّت أواصر التضامن التي تربط جميع أفراد العائلة الإنسانية، وهذا التضامن هو في الواقع مصدر قوة الأفراد، وكل نزوع الى الانفلات من حيّز هذا التضامن إنّما هو ضرب من الإنانية الهدامة، والأناني الذي يتوقف عن الشعور مع الآخرين ولا يعيش إلّا لنفسه فقط إنّما هو مخلوق انقطع عن الإسهام في الحياة العامة، ويتصرّف كأنّما هو جرم غريب مؤذٍ في جسم الإنسانية، وكل جرم غريب في الجسم يجب تجنّبه لكي لا يجلب الألم والمرض والفوضى.

     الماسونية هي إتحاد عالمي بين رجال أفاضل شرفاء صادقين في إخلاصهم لمصلحة الجماعة. وعندما تتّحد إرادة هؤلاء القوية فإن تأثيرها يكون عظيماً في الإرادات الأخرى الضعيفة، بهذه الطريقة يجب أن نطلب العدالة ونتوخاها، وكل ما يراد بقوة وإلحاح مخلص لا بدّ له من أن يتحقق.

 

الأخوّة السمحاء:

     قوّة الجماعة تكمن دائماً في مدى الإندماج القائم بين أعضائها. وفي الماسونية ليس الإتحاد نتيجة لنظام مسلكي صارم يفرض على أبنائها، بل هو ناجم عن وداد عميق يشدّ الأعضاء بعضهم الى بعض، فيقتضي إذاً الإسهام بشتى الوسائل في تقوية الروابط التي تجمع بين البنّائين الأحرار.

     ففي بداية المسيرة يجب الإكثار من اللقاءات لكي يتعارف الأفراد بروح من الإحترام والتقدير المتبادل، وهذا يقتضي الحرص الكلّي على حضور الجلسات الماسونية بمواظبة واستمرار، وهناك يجب أن يكون السلوك جديراً بأن يستلطفه الجميع، مع الحرص على إظهار أقصى التسامح تجاه الأخطاء التي قد تندّ عن بعض الأخوان . ليس بين الناس من بلغ الكمال الكلّي، لذلك يقتضي ألّا نتوقف أمام نقاط الضعف الكامنة عند الآخرين، بل يجب أن نتحرّى فيهم مزاياهم الطيبة، وأن نجعل من المحبّة والتسامح والصراحة البنّاءة إزميلاً يزيل النتوءات المتبقية في الحجر الخام.

 

إحترام القانون:

     إن فوق القوانين التي سنّها المشترع قانوناً أدبياً مكتوباً في قلب كلّ رجل فاضل، هذا القانون هو الذي يخضع له الماسوني بحرص كلّي ودون أيّ تحفّظ.

     أما القوانين المفروضة فإن الماسوني حريص على إحترامها والتقيّد بأحكامها مهما كان رأيه الشخصي بها. إنّها تؤلّف العنصر الأساسيّ لكل مدنية وتصونها من روح الإستبداد والتحكّم، وتؤمّن الانتظام العام على جميع المستويات، وتتّخذ صفة الشرعة في العقد القائم بين أفراد المجتمع الواحد.

     الماسوني يخضع إذاً للقانون حتى ولو بدا له غير عادل، وينحني أمام إرادة الجماعة حتى ولو خيّل إليه أنّها على خطأ.

     وإنّ الماسون يستجيبون بكلّ حرص ودقّة الى تشريع البلاد التي تسمح لهم بحريّة الإجتماع، ولا يشتركون بأيّة مؤامرة ضد أيّة سلطة شرعية قائمة. وأعمالهم الإنسانية ليست موضع ريبة إلّا في المواطن التي لا سيادة فيها للحق والعدل.

     أمّا بما خصّ القوانين الماسونية فإنّ البنائين الأحرار يتمسّكون، بصورة خاصة، بروحها ومرماها، ولا تفرض عليهم بحرفيتها في جوّ من الجمود والقسرية. إنّهم ينتهجون في مسالكهم خطاً معيّناً اتّخذ من خبرة السنين الطويلة صفة السلطة الموجّهة.

     يجب أن لا ننسى أن القوانين والأنظمة إنّما هي سنّت لقوم يعقلون فيستجيبون الى وحي الفكر والمنطق، وهذان يبقيان، عند كل مفكّر عاقل، الشرعة السامية التي لا تعلوها أيّة شرعة مكتوبة.

     إنّ الماسوني يتمتّع بتمام الحرية لأنّه مفروض أنّه حكيم عاقل، فلا يمكن أن يصدر عنه إلّا ما كان نابعاً من فعل إرادته الواعية، وهذا ما نعنيه عندما نقول أنّه ماسوني حرّ في محفل حرّ.

     عندما نقول للماسوني إفعل ما تشاء نفترض أنّه رجل حرّ فاضل مثقّف له من طبيعته أصالة رأي، ونزوع الى سلوك الأفضل، وإكتساب الفضائل، والإبتعاد عن النقائص، ممّا يجعله رجل نبل وشرف. وإذ ذاك تصبح حريته تدعيماً للنظام والقانون.

 – حقوق النشر: الدكتور ميشال الخوري  © ٢٠٢١

error: Content is protected !!